للنشر اتصلوا بنا على الاميل التالي: yahayamin1@gmail.com '
.

بـانورامـا

حقوق الانسان و الحريات

اخبار اجتماعية

في الذكرى الرابعة والأربعين لناس الغيوان لـ محمد الزياني



في الذكرى الرابعة والأربعين لناس الغيوان 
.....وتظل صرخة باطما خالدة بين"الألم " و"الرحيل" * و" لهمام لحسام"

محمد الزياني/ أحد مؤسسي مجموعة تْواتّون الأمازيغية بالحسيمة

مهداة لأرواح بوجميع والعربي باطما وعبد الرحمان قيروش (باكو)... وإن خصصنا هذه المقالة للعربي باطما فلأننا عازمون على معاودة الكرة مع باقي أقطاب هذه التجربة وغيرها كلما التحمت شروط ذلك مستقبلا...

سبعة عشرة سنة مرت على انطفاء ثاني شمعة في البيت الغيواني : العربي باطما.. الذي برحيله كادت جذوة الحياة تخبو في جسم هذه التجربة الغنائية التاريخية .. بعد الفاجعة المبكرة لبوجميع سنة 1974، لتزيدها كآبة الفقدان عتمة في عتمة ... هكذا يحلو لنا صياغة هذه الافتتاحية على مقاس افتتاحية العربي باطما نفسه في آخر رسائله المحشوة في قنينة الألم المتماوجة عبر تيارات اليَمّ البعيدة نحو الإنسانية 
جمعاء ، إيذانا بميلاد سنة جديدة 1997 : حيث صاح:" مات أحمد وانتهت السنة ".
• انطفأت ذات الشمعة لتفسح المجال لاستمرارية الروح الغيوانية التي أكد باطما مرارا على ديمومتها ، ف" نحن أشخاص في الروح الغيوانية "(1) ليكون موته ميلاد محنة جديدة للمجموعة التي اختارت منذ البدء قياس عطاءاتها وتضحياتها السخية " دقة تابعة دقة " في جدلية فريدة مع الجراحات المتتالية لهذا الشعب . أهو القدر ؟ أم هي الضريبة القاسية لهذه المجموعة على حسن إصغائها لنبض حياة هؤلاء الكادحين والمضطهدين الذين صاغت آلامهم وأوجاعهم وكذا آهاتهم صياغة فنية استتب دفؤها بين " ضلوع" القادمين من شتى هوامش هذا المغرب العميق : درب مولاي شريف ، كاريان بوعزة ، كاريان الخليفة ....ليجدوا في الحي المحمدي الملجأ الآمن لهؤلاء البسطاء الفارين من قساوة وعنف التهميش والنسيان بإيمنتانوت ، زاكورة ، تارودانت، تزنيت ولينسجوا معا علاقات الألفة والتمازج ضمن سياق تاريخي تميز باحتداد الصراع السياسي والاجتماعي بمغرب ما بعد 56 مع تباشير تشكل الوعي الطبقي لدى الفئات الشعبية الواسعة وضمنها العمال وأسرهم التي آوتها دروب الأحياء الصناعية بالبيضاء ، كالحي المحمدي ...هذا الحي/الفضاء الخصب للانبعاث التاريخي لهذه الروح الغيوانية المبثوثة في ثنايا التراث الشعبي الأصيل بكل مقوماته الأدائية والأداتية الموسيقية التي احتلت فيها الطبلة/الطمطم والبانجو الإفريقي والهجهوج (الكانبري) حجر الزاوية ، مما رسخ في ذوات المجموعة جذوة غنائية استثنائية أهلتها لاعتصار زبدة الفن الشعبي : هوارة ، حماتشة ، كناوة ، أقلال، والطرب الأمازيغي بكل إتقان ، لتصوغ بهذا المزج أروع متنفس فني لهؤلاء " المعذبين في الأرض"، هكذا كان باطما يحسن امتصاصه لرحيق ألم هذا الشعب وهو يبني صرح هذه الصيحة الإنسانية التي امتدت من القحط الى القحط ، انطلاقا من هذه الوسيلة / الآلة الشعبية البسيطة (طمطم) التي التحم بها باطما التحاما روحيا بدرايته البليغة وحنكته في استنطاق نقراتها المتضمنة لأسرار العلاقة بين هذه الأرض و الإنسان ....سنده في ذلك بحة صوته النادرالقادم من تلك العوالم السفلية للمجتمع المغربي في تماه تام مع إيقاع أبدع وأمهر باطما في التدرج عبر سلاليمه الموصلة الى " الحال" Transes حيث تنكشف الذات ، في تجرد مطلق، أمام عريها " البريء" . ف:
الحالْ الحالْ يا أهل الحالْ وُ اللي ما فيه الحالْ يذبالْ.... 
• تلكم هي الحكمة الصوفية التي وسمت الإيقاع الغيواني بامتياز، وبهذا تكون ناس الغيوان قد برأت ذمتها أمام من لم تستهوه هذه الروح في تشكلها المتدفق ... ولك من الوقت متسعه يا باطما لاستئناف السجال و التعبئة و الإقناع الأبدي لرفيق غيابك محمد الرايسي* وأنتما تركنان الآن لهدوء المطلق في منأى تام عن هموم اليومي وانشغالاته المتزاحمة ... وأنتما في خلوتكما تلك، قطعا ستتأملان بكل عمق دلالة الصرخة الغيوانية الأولى النابعة من أعماق هذا الإنسان الشمولي: 
حالي يا وعدي اليوم راه ادفعني 
ابغيت نوضع سؤال ونقول بلسان أهل الغيوان:
يابني الإنسان / علاش حنا عديان ؟ 
لاش لكروب ... لاش الأحزان؟
لاش لكذوب .....لاش البهتان ؟
لاش لحروب ...لاش الطغيان؟ 
واحنا خاوا ، احنا حباب ، احنا جيران / يا بني الإنسان.....

• هي ذي الصرخة المدوية في فضاء مغرب السبعينيات من قرن مضى والتي تلقفناها نحن خلسة، صبية وشبابا،جاهدين في استبطانها فرادى، حتى نحسن بعدئذ إعادتها /معاودتها وترديدها بصيغة الجمع عمت ربوع الوطن في صورة مجموعات وفرق غنائية احتجاجية متمردة وثائرة على الجاهز،أصرت على الاحتذاء بالنمط الغيواني الجديد،مقدمة للانخراط في الهم الجماعي الذي شكلت نغمته الغيوانية وتعبيراته الموحية سبيلا لتفجيرمخزون الذاكرة والوجدان اللذين اكتويا بحرقة الأسئلة : السياسية والثقافية والفكرية المتداخلة ضمن واقع متشابك المواصفات . فتفتقت المواهب والتحمت الأغاني بفرعيها الأمازيغي والدارجي المغربي (أوسمان ، تواتون ، ثذرين ، إزنزارن ، يني أمازيغ ـ بنعمان ، إريزام ـ إصفضاون وإيميران وغيرها كثير ... في بوتقة غنائية جديدة ناسجة معا نشيد المرحلة : 
ما هموني غير الرجال الى ضـــــــــــاعو لحيوط الى رابو كلــــــــــــــها يبني دار 
ما هموني غير الصبيان مرضو وجاعو الغرس الى سقط نوضو انغرسو أشجار
والحوض الى جف واسود نعنـــاعو الصغير ف رجالنا يجنيه فاكية وثمار 
مصير وحدين عند أخرين ساهل تنزاعه واشعاع الشمس ما تخزنه لسوار(...)
كولو ل هــــــاذاك كولولـــو كــــــولو للآخـــر كولولو 
كولو لــــه إلى ما افهــــم دابا ليــــام اتــــــوري لو........ 
• وليس صدفة أن تحتل الكلمة الشعرية المكانة الحساسة في هذا الانفجار الغنائي الرائع، لما اختزنته من دلالة التحدي لعناد واقع مجتمعي مطوق بكل الاحتمالات !!! ف" لا كلمة فوق كلمة الْغَضََنْفَرْ..." إنها الكلمة الزجلية البسيطة التي قال في حقها الفقيد باطما :" إذا كانت الفصحى تقول: أنا البحر في أعماقه الدر كامن ، فإن الدارجة تقول: أنا الّدر في أعماقه البحر كامن (2) " ويضيف " نحن لسنا موسيقيين ، نحن ممثلون يحملون خطابا يهمهم أن يصل"(3) ف :
سبحان الهن صيفنا ولى شتــــــــــــــوة وارجع فصل الربيع ف البلدان خريف (....)
جور الحكام زادنا تعـب و قســوة لا راحة ولعباد ف نكد وتعسيــف
والحاكم كايصول كايقبض الرشـوة والشاهد كايدير ف الشهادة تحريف 
افهم المعنى و عيق واستافد واروى هذا سر لكنان ما رامه تصــحيف
غير أن الكلمة الغيوانية لاتقرأ إلا على ضوء الإيقاع النابع من أعماق تراث هذا الشعب في امتداده العمودي والأفقي ، فقد " يفنى كل شيء ويبقى الإيقاع "(4) وهي الدلالة القوية التي اتخذتها تلك اللقطة الفريدة في فيلم " الحال" حيث تعطل كل شيء عن الحركة ليفسح المجال أمام الإيقاع ، ولترقص المجموعة رقصتها الغيوانية حد الذوبان والفناء في " الحال" اللحظة الصوفية المشتهاة .... فبقدر ماكان باطما ملما بثراء تراثه الشعبي المحلي ، كذلك كان في استلهامه لروائع الفن الغنائي الجميل على امتداد بلدان المغرب الكبير ولأصوات هوامشها المترامية الأطراف .. وفي خضم هذا الاطلاع الواسع يحضر الشيخ العنقا الجزائري كمعلمة ثقافية / تراثية أثثت مجال الغناء الشعبي لجزائر الثورة ومؤسس هذا الفن الجماهيري في صورته الحديثة والمعاصرة ، فالشيخ " العنقا لم أعاصره ، وإنما 
أحفظ الكثير من أغانيه "(5).
أليس في تبحر العربي باطما المنشرح الضفاف هذا ما ولد لديه تلك العصامية النادرة التي عبرها عانق الحقول المعرفية المختلفة : قراءة وكتابة إبداعية ومحاكاة : القصة ـ الغناء ـ الزجل ـ الرواية ـ السينما ـ التأليف الأدبي ....الخ ، فعلى مدار مسيرته الإبداعية التي انفلتت من جحيم الثبات "البارمينيدي" ظل باطما يكابد ، يعاند ويقاوم اليأس والإحباط بنفس الطموح والصمود الذي قاوم به المرض اللعين في أواخر أيامه ، كل ذلك ليودعنا خزانة حياته ، هذا الإنتاج الفني وهذا الركام الأدبي الهام كرسالة عظمى ستلقن جيلا بعد جيل علاقة الفن بالحياة ، رسالة على القادمين استنطاق ألغاز بواطنها انطلاقا من حرقة السؤال الذي أصر باطما على طرحه بلغة شعبية وتراثية أصيلة تكثف من المعاني والدلالات ما عجزت معاجم اليوم على فك ألغازه واختراق طلاسيمه ، من قبيل ما تزخر به أغنية :
فين غادي بيا ؟
يا من هو باز ف لقفاز
يا من هو فروج عل الكندرة وانشر اجناحو
يا من هو تليس اعطى ظهرو لتغراز
عمرني ما ريت لغزال تمشي بلمهماز 
وُ فراخ الخيل عادو سراحو 
عمرني ما ريت النخلة تعطي حب الغاز 
بعد الثْمر وُ تبلاعو
يا من هو ديب ف لغياب كثر صياحو
......
أنا ما نسيت حياتي يا ناس المحبة 
أنا ما نسيت ناسي خاية هدي نكبة ....
وصولا لإحدى مقاطع اغنية " نرجاك أنا " :
نرجاكْ انا إلى مشيتْ فُكْني من عْبادكْ إلى تْريدْ 
آيْ قد زايدْ ف الـهمْ وَاوْ مَا كْواني حرّ المُوتْ......
• ألا يحق لنا الإقرار بأن باطما بمعية رفيقه الناقد المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس في " رحلة في مجاهل موت عابر" قد سلكا معا مسلك العظماء في إبداعهما لمجال أدبي جديد سيعرف بعدهما ب" أدب الموت" بكل مميزاته الفنية وخصائصه الإبداعية التي عادة ما تكون من نصيب الملسوعين ،على حين غرة، بحتمية الموت ... !!! عجيب كيف صاغا معا أروع صور فنية للمعايشة الشجاعة والأليفة للحظات الألم المنبعثة من عمق الإحساس بالموت المحض... فعلى ضوء حبكة سيرة " الرحيل" وبعدها" الألم " مع تفاصيل رحلة ونوس ، تتراءى لنا بجلاء أعظم مقومات الأدب ذاك ... نفس المقومات التي أملت على باطما تتويج الرحيل بالألــم وليس العكس !... هكذا يرحل باطما ليظل الألم يمزق أحشاءنا ويسكن جراحاتنا التي ستظل تنزف دما / شهادة على درب الخلق والإبداع ، يرحل ...بعد أن سلم المشعل وأمنه في أيدي الأجيال القادمة لإيقاد الشموع " بدل لعن الظلام " لأنه القائل :" أظن أن باحثا مغربيا في عام 2000 أو 2500 سيهيء أطروحته عن الأدب الشعبي ويتحدث عن الفترة الممتدة ما بين 70 و90 دون الوقوف عند ظاهرة ـ ناس الغيوان ـ ستكون أطروحته ناقصة بالتأكيد " (6).
قالها ورحل مرددا: أنا راني مشيت الهوْل الداني 
والديا واحبابي ما سخاو بيا ، بحْر الغيوان مادخلتو بلعاني .......
هكذا نقف اليوم وقفة إجلال وإكبار أمام روح هذا الفنان العظيم ، ومعه روح كل من بوجميع وعبد الرحمان (باكو) وأيدينا على أفئدة تنشد الأمل والرجاء فيمن بقي من اقطاب الغيوان لاستئناف دورهم في ربط حلقات السلسلة الغيوانية فيما بين الأجيال ، حتى وإن رحل الرواد، 
فإن الروح الغيوانية ستظل خالدة منفلتة على الدوام من مخالب الزمكان .....

* الهوامش
*هما جزأي سيرته الذاتية ، قبل أن ترى النور مطولته/ملحمته الشعرية "حسام الهمام" بعد رحيله
(1) في حوار مع جريدة الاتحاد6 فبراير 1994 
* ضمن حوارات الصيف ل 1985 أدلى المرحوم محمد الرايسي للملحق الثقافي للاتحاد بما يلي :" أما هذه الظاهرة ـ يقصد الغيوانية ـ فهي تنطلق من الفراغ والضجيج وتقليد موسيقى علب الليل ، بل إنها خالية من الفن ". وسرعان ما رد على ذلك عمر السيد في حوار لاحق معه بنفس الجريدة : الأحد 29/09/1985 .
(2) الجزء الثاني من حوار " ايقاع الأغنية ، إيقاع الحياة " جريدة أنوال ع: 1148 في 18/8/93 ص 8
(3) نفســـــــــه
(4) لعبد الله الزريقة ، أوردها العربي باطما في الجزء الأول من نفس الحوار السابق(أنوال).
(5) الجزء الثاني من نفس الحوارالسابق (أنوال).
(6) الجزءالأول من حوار العربي المذكور مع جريدة أنوال.

مواضيع ومقالات مشابهة

/* ------------------------------ اضافة تعليقات الزوار من الفيس بوك ------------------------------ */
Organic Themes