الذكرى 29 لإغتيال الشهيدين "فريد أكروح و سعيد بودفت" شهادات عن الاحداث
تحل الذكرى التاسعة و العشرون لإغتيال التلميذين / الشهيدين الغاليين علينا دمـــاؤهما فريد أكروح وسعيد بودفت، حيث جاء استشهـــادهما في سياق تطور نضال الحركـة التلاميذية بثـــانوية إمزورن خلال الموسم الدراسي 1987/1986.
و ذلك من خلال التطور الكمي و الكيفي الذي عرفته الحركة بعد تراكمات نضالات الحركة منذ ولا دتها في سنة 1983/1982 بثانوية امزورن، حيث كانت تعتمد في نضالها على تحقيق ملفها المطلبي المسطر من طرف قواعد الجمــاهير التلاميذية، وفق اعراف و مبادئ الحركة و تتعلق بالنقاط " تجهيزالمختبرات والمكتبة و باقي المرافق داخل الثانوية، وتوفير اساتذة اكفاء في مختلف المواد لاقسام الباكالوريا و مطالب القسم الداخلي خاصة تحسين الوجبات الغذائية كما و كيفا..."
إلا أن النضام المخزني كان و ما زال يتعاطى مع هذه الإحتجــاجات المطلبية بالمقاربة القمعية كعادته لكبح جماح نضالات الجماهير الشعبية و باقي فئاتها حيث وصلت حدتها يوم الأربعاء 21 يناير 1987، إثر تنظيم الجماهير التلاميذية لتظــاهرة إحتجاجية داخل أسوار ثانوية إمزورن مما دفع بالسلطات القمعية الى اعطاء اوامرها باقتحام وانتهاك حرمة المؤسسة من طرف جحافيل القوات القمعية المدججة بمختلف وسائل التنكيل والقمع، هذا التدخل القمعي التتري الذي سرعان ما أسفر عن العديد من الجرحى وسقوط تليذين شهيدين "سعيد بودفت وفريد أكروح" و نجاة تلميذ اخر باعجوبة "فؤاد الفقيري" بعد نقله الى المستعجلات لتلقي العلاجحيث ظل لمدة اسابيع بمستشفى محمد الخامس بالحسيمة الى تعفى.
الشهدي فريد أكروح وظروف اغتياله:
ولد فريد أكروح بتاريخ 1965/01/01، بــآيث بوعياش إقليم الحسيمة وترعرع في وسط قروي، بدأ دراسته الإبتدائية في مدرسة بني بوعياش وتابع دراسته الإعدادية بنجاح لينتقل إلى مدينة إمزورن لمتابعة دراسته الثانوية، وفي سنته الأخيرة لنيل شهادة الباكلوريا في تخصص العلوم التجريبية و بالضبط يوم الأربعاء 21/01/1987 تم اغتياله بعد أن تدخلت أجهزة القمع الهمجية التي خلقت جو من الفزع و الارتباك في صفوف التلاميذ مما ادى بهم الى الفرار في كل الإتجاهات حبث اتجه فريد نحو الإدارة ليسلمه المدير المسمى " التركوتي " إلى القوات لتنهال عليه بالضرب إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى .
الشهيد سعيد بودفت وظروف اغتياله:
ولد سعيد بودفت بدوار تيزي أوعكي بضواحي سد محمد بن عبد الكريم الخطابي يوم 1971/01/25، وينحذر من أسرة فقيرة، كان بتابع دراسته بالسنة الثانية من السلك الإعدادي، أشبعته هراوات القمع ضربا دون مراعاتهم لعاهته المستديمة وحالته الصحية، و لم يلتجئ الى المستشفى للعلاج خوفا من الاعتقال و التعذيب، فاستشهد مساء يوم 21 يناير 1987 في منزله متأثرا بالجروح ليلتحق بقائمة الشهداء الذين سقطوا في كل الإنتفاضات الشعبية ...
شهادة سعيد أكروح أخ الشهيد فريد أكروح:
خرج فريد من المنزل في العاشرة صباحا قاصدا لحضور حصة من العاشرة صباحا إلى الثانية عشرة، وبدخوله من باب المؤسسة وجد تجمع كبير من التلاميذ وسط الساحة أثار انتباهه ثم التحق بهم لتتحول الى مظاهرة احتجاجية، حينه تدخلت السلطة بأجهزتها القمعية لتفريق التلاميذ المتظاهرين مما أدى إلى انتشار الخوف والفزع داخل المؤسسة وبدأ التلاميذ بالهروب في كل الاتجاهات واتجه فريد ناحية الإدارة، وإذا به يلتقي بمدير المؤسسة ليقول له بالحرف "تعالى تعالى يا بني اختبئ في مكتبي" وبعد دخوله إلى المكتب وإقفال الباب عليه، قام مدير المؤسسة باخبار رجال السلطة بوجود تلميذ "مشاغب" داخل المكتب مختبئ، إذ قصدوه وقاموا بتعذيبه و ضربه بالهراوات و رفسه بوحشية شديدة في جميع انحاء جسمه دون تمييز حتى أغمي عليه، وبعد ذلك نقل في سيارة عسكرية إلى المستوصف المركزي بامزورن، وبعدما عاين الطبيب حالته، أمر بنقله وبسرعة إلى المستعجلات بمستشفى محمد الخامس بالحسيمة لأن حالته خطيرة جدا.
وعند وصول النبأ إلى عائلته، انتقل والد الضحية مرفقا بأفراد العائلة إلى مستشفى محمد الخامس للاطمئنان على الحالة الصحية لابنهم والوقوف على حقيقة الوضع، وبقيت العائلة في قاعة الانتظار إلى حدود الساعة التاسعة ليلا، لتتلقى بعد ذلك خبر وفاة أكروح فريد.
وفي اليوم الموالي للحادث قامت السلطة بنقل جثمان الشهيد إلى مقبرة سيدي أحمد التي توجد قرب مكان سكن العائلة بآيث بوعياش، تحت حراسة مشددة من قبل رجال السلطة لمنع عائلة الشهيد من رؤية جثمان ابنهما، إلا أن عزيمة الأم وإصرار العائلة والحاضرين على رؤية جثمان الشهيد، وبعد صراع مرير بين رجال السلطة والحاضرين تمكنت الأم والعائلة من رؤيته أخيرا، إلا أن المنظر كان فظيع ومؤثر مما أدى إلى إغماء الأم وبعض الحاضرين، ومباشرة بعد ذلك تداركت السلطة الوضع، وعززوا صفوفهم بقوات إضافية لدفن الجثمان – وفعلا كان لها ذلك – كما قامت بوضع دورية خاصة لمراقبة المقبرة على مدار 24 ساعة ولمدة ثلاثة أشهر.
وفي اليوم الثالث للحادث الأليم طلب عامل إقليم الحسيمة من والد الشهيد التنازل عن الدعوى، كأن شيء لم يحدث كما هدده واستفزه بأساليب مختلفة، وبقي الوضع على هذا الحال. إلى أن راسلت لجنة حقوق الإنسان أخ الشهيد أكروح سعيد بتاريخ 07/02/ 2004 لتكوين ملف خاص عن حياة فريد أكروح، ومباشرة بعد ذلك اتصل أكروح سعيد بالمدير الجديد لثانوية امزورن للحصول على شهادة مدرسية، إلا أنهما تفاجأ بوجود تاريخ طرد أكروح فريد من المؤسسة قبل وقوع الحادث مما أثار تعجب الطرفين، وزيادة على ذلك وجد تزويرا آخر في سجلات الموتى بمستشفى محمد الخامس، حيث سجل في أرشيف فريد أنه توفي وفاة طبيعية.
البدايات:
شهدت ثانوية امزورن أحداثا خطيرة ابتداء من سنة 1983، ارتبطت بالهجمة الشرسة لقوات القمع على الثانوية من أجل إخماد لهب النضالات المتصاعدة للتلاميذ بسبب الأوضاع المزرية التي كانت تعيشها المؤسسة ، و المتمثلة في غياب التجهيزات الأساسية فضلا عن التسيير السلطوي القمعي للإدارة و الذي كان يشيع جوا من الرعب و الإرهاب الدائم المعيق للعملية التربوية و التعليمية .
التحقت بثانوية امزورن في الموسم الدراسي (1982-1983) ، في السنة الأولى إعدادي . خلال هذه السنة شهدت رحاب ثانوية امزورن أول تظاهرة للتلاميذ تضامنا مع الحركة الطلابية بوجدة إثر تعرضها لهجوم قمعي شرس.
وكان لهذه التظاهرة أثر عميق على وعيي الشخصي ، كما على وعي التلاميذ بشكل عام في علاقتهم بالمحيط ، محليا ووطنيا ودوليا . إذ بدأت أطرح عدة تساؤلات حول كثير من المفاهيم و الأفكار التي كنت ألتقطها من خلال النقاشات التي كنت أحرص على حضورها سواء داخل المؤسسة أو خارجها .
لقد شكلت هذه النقاشات بالنسبة ليي حافزا للقراءة المتواصلة لمصادر الفكر الثوري و التقدمي و الإطلاع على تجارب الشعوب في الإنعتاق و التحرر.
مع بداية سنة 1984 ، تصاعدت نضالات التلاميذ بثانوية امزورن وكذا بباقي الثانويات بالحسيمة كالبادسي و المعهد الديني... وكانت مطالبنا بسيطة كتحسين أوضاع التلاميذ الداخليين و تجهيز المكتبة و المختبر العلمي ، فضلا عن تحسين ظروف التمدرس من خلال رفع كل أشكال القمع و التسلط التي تمارسها الإدارة على التلاميذ .
لقد تزامن ذلك مع التصعيد النضالي للحركات الاحتجاجية على المستوى الوطني، نتيجة تدهور الظروف المعيشية لغالبية الجماهير الشعبية وارتفاع نسبة البطالة كنتيجة مباشرة لسياسة التقويم الهيكلي. و في هذه الأثناء قررت الحكومة الرفع من أسعار بعض المواد الأساسية ، مما أجج مشاعر الغضب الشعبي على الدولة ترجم على شكل مسيرات و مظاهرات في كل من الناظور و الحسيمة و تطوان ... ولم تكن ثانوية امزورن بمنأى عن هذه التطورات و الأحداث ، بل انخرط التلاميذ بدورهم في هذه الحركة النضالية من خلال تنظيم مظاهرات داخل الثانوية و خارجها، حيث تحولت يوم السبت 13 يناير إلى انتفاضة شعبية خرجت عن سيطرة التلاميذ نظرا لحجمها و تعدد الفئات الشعبية المشاركة فيها، فضلا عن التدخل القمعي الدموي للقوات العسكرية الذي أجج الوضع أكثر.
وكان من نتائج الانتفاضة على مستوى ثانوية امزورن تحديدا ، اعتقال بعض التلاميذ منهم بولعيون علي الذي صدر في حقه حكما بالسجن النافذ لمدة سنتين، أشهبار أمحمد والحنودي مكي اللذان تم اطلاق سراحهما بع أن نالا حضا وافرا من الجلد و التعذيب في الكوميسارية الإقليمية بالحسيمة .
وفي أعقاب الانتفاضة ، تصاعدت نضالات التلاميذ بثانوية امزورن من خلال تنظيم عدة مظاهرات و اعتصامات داخل المؤسسة مطالبين بالإفراج عن المعتقلين، خاصة بولعيون علي، كما طالبنا و لأول مرة باحترام حرية العمل النقابي وحق التلاميذ في تشكيل وداديتهم ، إضافة إلى تحسين وضعية التلاميذ الداخليين، و تجهيز المكتبة و المختبر العلمي. إلا أن الإدارة و السلطات المحلية و الإقليمية كثفت من أساليب القمع و التنكيل بالتلاميذ من خلال فرض حصار عسكري دائم على المؤسسة و تنقيل بعض النشطاء تنقيلا تعسفيا من الثانوية فضلا عن إجبار آخرين على توقيع التزامات بعدم المشاركة في الأنشطة النضالية مع ما كان يرافقه من سب و ضرب داخل مقر القيادة بامزورن .
لقد بلغ مسلسل الطرد أوجه خلال الموسم الدراسي (1986-1987) ، حيث بلغ عدد التلاميذ المطرودين حوالي465. مما ساهم في تأجيج الأوضاع و تصعيد النضالات التلاميذية خلال هذا الموسم والمطالبة بارجاع المطرودين بدون قيد ولا شرط . لكن الإدارة رفضت حتى إجراء الحوار مع التلاميذ بل صعدت من أساليب التضييق و القمع ، الأمر الذي أدى إلى تأزيم الأوضاع بالثانوية و تصعيد الأشكال النضالية بهذه المؤسسة .
أمام هذه الظروف لم يجد النائب الإقليمي لوزارة التربية الوطنية آنذاك بدا سوى إجراء حوار مع التلاميذ للنظر في محاور ونقاط مذكرتهم المطلبية . حيث وعد بحل بعض النقاط الواردة فيها . لكن مع مرور الوقت تبين أن تلك الوعود كانت مجرد مناورة لربح الوقت وتكسير شوكة الاحتجاجات التلاميذية . وهدا ما دفعنا إلى الدخول في معارك أخرى أكثر تصعيدا .
لكن إدارة المؤسسة ومعها السلطات المعنية لم يكن لها نية إيجاد حلول للمشاكل المطروحة ، بل دفعت في اتجاه تأزيم الأوضاع من خلال إطلاق العنان لآلة القمع و الترهيب لثني التلاميذ على مواصلة أشكالهم الاحتجاجية لدرجة قامت باعتقال آباء وأولياء بعض التلاميذ النشطين داخل الحركة لإجبارهم على تقديم فلذات أكبادهم إلى السلطة و بالتالي إلى السجن .
جريـــمة قتل داخل الثـانوية
في يوم الأربعاء 21 يناير 1987 على الساعة الثامنة صباحا، حاولنا الدخول إلى المؤسسة عبر مدخلها الرئيسي وذلك لمواصلة إضراب كنا قد بدأناه بالأمس مساء، ففوجئنا بمدير الثانوية واقفا هناك بملامحه المتجهمة وبنظراته الساخرة والتي أوحت لي شخصيا بأن قرارا خطيرا ما قد اتخذ بالأمس من قبل السلطات الأمنية و الذي يخص بطبيعة الحال سبل القضاء على فتيل النضالات المتصاعدة بالثانوية.
أمام هذا الوضع قمنا بتنظيم تظاهرة خارج المؤسسة في اتجاه المدخل الفرعي ( الأسفل ) للثانوية لتستقر داخل الساحة المخصصة للألعاب الرياضية، وبعد ذلك قمنا بفتح حلقية نقاش -بالضبط في ساحة كرة اليد – وذلك للنظر في بعض نقاط المذكرة المطلبية . وقبل أن نشرع في توزيع المداخلات ، جاء مدير المؤسسة وبلهجته الصارمة أمرنا بإخلاء الساحة والالتحاق بالأقسام وإلا فعلينا الاستعداد حسب قوله لكلمة السلطة ، وأمهلنا ربع ساعة للتفكير و اتخاذ القرار.لكن كلمة السلطة نطقت قبل مرور المهلة بل بمجرد أن غاب المدير عن أنظارنا ، حيث رأينا عددا كبيرا من القوات العسكرية تتقدم إلينا وهي مدججة بالعصي والهراوات . لم نتمالك أنفسنا من شدة الخوف ، فبدأ التلاميذ بالفرار في كل الاتجاهات. وبعد أقل من دقيقة تمكن ثلة من المناضلين من ضبط الأمور و التحكم في تنظيم عملية الإنقاذ ومساعدة التلميذات خاصة على تخطي أسوار الثانوية خارجا. ولكم أن تتصوروا مشهد مطاردة أكثر من ألف تلميذ و تلميذة في ساحة ضيقة و أمامهم أسوار عالية !؟
لقد ظل هذا المشهد عالقا دائما على الدوام في ذاكرتي ومازلت أتذكر تلك الوجوه التي بشجاعتها النادرة ساهمت في تجنب كارثة محققة أمام قوات وحشية لا تعرف الرحمة أو الشفقة . وأتذكر كذلك أن مجموعة من التلاميذ تجنبت الاصطدام بالجموع الهاربة في اتجاه أسوار الثانوية و فضلت الاتجاه نحو الإدارة الفرعية للمؤسسة حيث مكتب الحراسة العامة، ومنهم الشهيدان : أكروح فريد و بودفت سعيد، الأول ألقى عليه القبض أحد أطر الإدارة وسلمه إلى عناصر من القوات المتنقلة ( ) التي انهالت عليه بالضرب بعد أن أسقطوه أرضا لدرجة تبين للشاهد أن النية كانت القتل و الاغتيال وليس مجرد الترهيب. سقط الشهيد أكروح فريد مضرجا في دماءه إذن ، أمام باب الإدارة الفرعية(الحراسة العامة) ومات هناك قبل أن يحملوه إلى مستوصف إمزورن وبعده إلى مستودع الأموات بمستشفى محمد الخامس بالحسيمة . و يحكي بعض الشهود أنه مباشرة بعد نقل جثة الشهيد إلى أكروح فريد وأحد التلاميذ الجرحى، توجه مدير المؤسسة آنذاك إلى القسم الداخلي وأمر بعض الأعوان بغسل آثار الدم من أمام مقر الحراسة العامة.
أما الشهيد بودفت سعيد الذي كان طفلا صغير السن (لا يتعدى عمره 13 سنة ) ومعاقا على مستوى الظهر ، فقد توفي مساء ذلك اليوم إثر نزيف داخلي بسبب ضربات تلقاها على أيدي القوات المتنقلة ( ) في نفس المكان الذي استشهد فيه أكروح فريد ، وذلك في غرفة كان قد استأجرها بحي الثانوي بامزورن.
حملــة اعتقالات مسعورة
لم تقف السلطات القمعية إلى هذا الحد، بل شرعت في تنظيم حملات اعتقال واسعة في صفوف التلاميذ بامزورن وكذلك على مستوى مدينة الحسيمة، و قامت بإشاعة جو من الإرهاب والخوف في صفوف الساكنة عموما عبر ما كان يسمى ب: لاراف ومداهمة المنازل في جنح الظلام نتج عن هذه الحملة اعتقال مجموعة من التلاميذ أتذكر من بينهم :أمغار محمد- أبركان حسن - البقالي سعيد - أمغار عبد الحكيم - أمغار عبد الحق -محمد أسويق ...
تم اقتياد هذه المجموعة إلى الكوميسارية بالحسيمة حيث تعرضوا لأبشع صنوف التعذيب طوال مدة الحراسة النظرية ، منهم من أطلق سراحه ومنهم من نقل إلى الناظور لاستكمال الاستنطاق حيث تعرضوا هناك لتعذيب همجي لمدة فاقت الشهر وبدون محاكمة ليتم إطلاق سراحهم فيما بعد .
وبعد ذلك تواصلت الحملة وكثفت آلة القمع من نشاطها لتحصد مجموعة جديدة من المعتقلين، لكن هذه المرة لمحاكمتهم بعد تلفيق تهم زائفة لهم من قبيل حرق العلم الوطني ، حالة السعيدي سعيد اللذي مورس عليه من التعذيب إلى درجة الجنون و فقدان الصواب. ثم حالة الفقيري نورالدين . وكذلك تهمة الإفطار في رمضان بالنسبة لحالة الشكيوي سعيد. وفيما يلي لائحة المعتقلين اللذين صدر في حقهم أحكام بالسجن النافذ:
ليو مصطفى: 10 أشهر
المرابط عمر: سنة واحدة
الكرودي عبد الحكيم : سنة واحدة
الملولي محمد: 6 أشهر
الشكيوي سعيد: 6 أشه
سهيد السعيدي: ظل في السجن بدون محاكمة
وفي الموسم الدراسي (1987- 1988 ) تصاعدت الاحتجاجات في ثانوية امزورن وباقي المؤسسات الإعدادية والثانوية بالحسيمة ضد الإصلاح الجديد للتعليم و الذي أقر نظام الأكاديميات مطالبة بإلغائه . وتزامن ذلك مع إعفاء المدير السابق من مهامه وتعيين مدير جديد أشك في انتمائه لأسرة التعليم. وقد كلف فيما يبدو من طرف جهات أمنية عليا بالقضاء على الحركة الاحتجاجية المنغرسة بالمؤسسة بكل الوسائل بما فيها القمعية بالطبع حيث تحولت إدارة المؤسسة إلى مخفر للاستنطاق و ممارسة التعذيب على المناضلين.
أتذكر في أواخر شهر فبراير من سنة 1988 عشية استقبال اليوم الأول من العطلة الربيعية على الساعة الرابعة مساء بعد رفع حلقية للنقاش أثناء الاستراحة، فوجئت بمدير المدرسة ينقض علي بطريقة لا تقل احترافية عن تلك التي يمتاز بها المخبرون وعناصر الشرطة السرية، وذالك على مقربة من باب المؤسسة حيث كنت أهم بالخروج . وبعد إدخالي إلى مكتبه مستعينا ببعض الحراس العامين، شرعوا في ضربي باللكمات والركلات بطريقة هستيرية لدرجة لم أتبين مصادرها ولا العناصر المشاركة في هذه اللعبة الدموية إلى أن أوقعوني أرضا حينها رأيت بقعا من الدم تزين مكتب المدير فضلا عن ملابسي المنكمشة والمتهللة بفعل هذا الطاقم التربوي النبيل الذي يقدم نموذجا لبلوسة الوظيفة العمومية في انسجام تام مع طبيعة المرحلة. لكن رغم ذلك لم أتأثر من حسن ضيافة المدير المحترم هذه قدر تأثري بحصة الاستنطاق البوليسي التي بقيت راسخة في الذاكرة بفصولها وفواصلها التي تقطعها رنات الهاتف وخوار المدير مع القائد أو رئيس الدائرة بأجدير.... جلسة الاستنطاق هذه استغرقت حوالي ساعتين ونصف وتركزت حول مواضيع مشتتة قصد الاختبار كعلاقتي بالفكر الماركسي اللينيني تجربة الاتحاد السوفيتي منظمة إلى الأمام الحركة الطلابية ثم عرض إمكانية الاشتغال في اللجنة الثقافية الإدارية في مقابل إنهاء كافة الأشكال والأنشطة النضالية المنظمة داخل المؤسسة وإطلاق سراحي محذرا بأن مصيري سينتهي في الكوميسارية بالحسيمة إن رفضت هذا العرض.
هذا الأسلوب في الاستنطاق جعلني أتذكر ما كان يرويه بعض المعتقلين الذين مروا من تجربة التعذيب والاستنطاق سواء في الكوميسارية بالحسيمة أو الناظور، أو تلك التجارب التي كنت أداوم على قراءتها في إطار ما يعرف بأدب السجن .
وباختصار اتصل مدير الثانوية مجددا بالقائد فأخبره هذا الأخير بأنه مازال في اجتماع مع رئيس الدائرة بأجدير وبأن يحتفظ بي في مكتبه إلى حين مجيئه. الساعة الآن السابعة مساء، وأنا جالس على أرضية مكتب المدير الباردة متألما من جراء اللكمات والانتفاخات التي بدأت تعلن عن نفسها أمام هذا الجلاد النبيل. وفجأة سمعت آثار الأقدام تقترب وبعده دقات على المكتب، فشعرت بخوف شديد وبارتعاشة سرت في كل مناحي الجسم النحيف، وقلت في نفسي أن ساعة الامتحان قد دقت فما علي إلا أن أستعد لرحلة مختلفة تماما عما عشته في الساعات القليلة الماضية إلا أنني سرعان ما تنفست الصعداء حينما رأيت أبي مصحوبا بأحد أصدقائه وهو من الأعيان المقربين إلى السلطة محليا ووطنيا ....وبعد السلام والاستفسار عن قضيتي/جريمتي بدأ مسلسل آخر من التأنيب هذه المرة من والدي وصديقه إلى أن وعد هذا الأخير المدير بأن يسلمني بنفسه إلى القائد حال وصوله إلى مقر القيادة. ثم اصطحبوني في سيارة مرسيدس خضراء في اتجاه القيادة بامزورن، وعند وصولنا أمرني صديق أبي بالبقاء في السيارة إلى أن يتأكد من وجود القائد مطمئنا إياي بأن الأمر لن يستغرق إلا بعض دقائق لأخرج إلى حال سبيل. لكن وبمجرد أن دخلا من باب القيادة قفزت من السيارة هاربا لتغمرني شوارع المدينة وأحرم من وداع أبي الذي كان قد حجز تذكرة سفر إلى باريس في اليوم الموالي، ولأخلق مشكلا لصديقه الذي تعرض لضغوطات من قبل القائد مطالبا إياه بتسليمي .... و منذ هذه اللحظة وأنا ملاحق من قبل السلطات القمعية. كما لم أرى والدي لمدة تزيد عن ثلاث سنوات (إلى غاية 1991) بسبب توتر العلاقات بيني وبينه و لأن التطورات اللاحقة ستجبره على البقاء في المهجر خوفا من اعتقاله هو كذلك كما وقع لوالد الرفيق حدب عبد اللطيف .
بعد العودة من العطلة الربيعية، قام مدير المؤسسة باحتجاز الرفيق حدب عبد اللطيف داخل الإدارة حيث تعرض للضرب المبرح من قبل المدير ومساعدوه في مكتبه الذي تحول إلى شبه مخفر لتعذيب التلاميذ. والجدير بالذكر هنا أن والد الرفيق حدب جاء في هذه الأثناء من ألمانيا لقضاء عطلته، فقامت السلطات باحتجازه ومصادرة أوراق إقامته بألمانيا كذا سيارته، وذلك لحمله على تسليم ابنه للسلطات رغم أن هذا الأخير حرم من المبيت في منزله وحتى من رؤية أبه العائد من المهجر . ولقد دامت هذه المعاناة أكثر من ستة أشهر، بعدما هاجر من امزورن نهائيا ليستقر بطنجة.
أمام هذه الظروف تصاعدت نضالات الحركة بالثانوية ضد القمع الذي يتعرض له المناضلون من قبل الإدارة، وشكلت هذه النضالات بالنسبة إلي حماية وسندا من شبح استدعائي للمثول أمام القائد، كما أن اهتمام السلطات الأمنية بضرورة القبض على حدب عبد اللطيف فضلا عن الرفيق الميلودي محمد اللذين اعتبرتهما أهم العناصر النشطة داخل الثانوية، قد جنبني مع مناضلين آخرين السقوط في دائرة ضوء السلطات الأمنية في هذه الفترة.
وفي نهاية سنة 1988، قاطعنا الامتحانات بسبب عسكرة الثانوية ووجود عناصر البوليس داخل مبنى الإدارة وورود أنباء عن عزم السلطات اعتقال التلاميذ المطلوبين من داخل الأقسام أثناء الامتحانات، و الأمر يتعلق هنا بمستوى السادسة ثانوي بشعبتيه الأدبية و العلمية حيث جل المطلوبين كانوا يتابعون دراستهم في هذا المستوى .ورغم أن قرار المقاطعة كان في البداية مجرد تهديد لحمل الإدارة والسلطات على سحب القوات العسكرية من المؤسسة وتفادي فعل الاعتقال، إلا أن هؤلاء رأوا في ذلك فرصة للتخلص من ذلك الكم الهائل من المناضلين النوعيين الذين يتابعون دراستهم في هذا المستوى ويشكلون المخرق الأساسي للحركة على مستوى الثانوية ككل .
ولقد اعتبرت هذه السنة من سنة بيضاء بالنسبة لمستوى السادسة ثانويي وعمدت الإدارة بعد ذلك إلى تصفية جل المناضلين النشيطين في الثانوية من خلال طرد وتنقيل العديد منهم تعسفيا ، كما قامت بسن إجراءات غريبة للتسجيل في الموسم الدراسي 1988- 1989، من بنها توقيع التزام بعدم المشاركة في الحركة الاحتجاجية بالمؤسسة كشرط أساسي للتسجيل ، بما يعني تقديم من لم تشملهم آلة التصفية و الحرمان من الدراسة إلى السلطات لاعتقالهم والزج بهم في السجن كما فعلت مع الرفيق ليو مصطفى الذي أجبر على توقيع مثل هذا الالتزام فكانت النتيجة أن قضى عشرة أشهر في السجن .
حاولنا في البداية مقاطعة التسجيل و طالبنا الإدارة بالتراجع عن هذا الإجراء وقرار التقيلات التعسفية و الطرد .واستمرت هذه المعركة حوالي عشرة أيام وانتهت بالفشل بعد تعنت الإدارة عن الاستجابة لهذه المطالب .
الأمر الذي دفعني إلى مغادرة الثانوية مع مجموعة ممن تعرضت للتنقيل التعسفي إلى مدينة طنجة بحثا عن عن مؤسسة للتسجيل ، هذه المجموعة كانت تضم الأسماء التالية :
الخلقي محمد : السادسة ثانوي (علوم تجريبية)
العزوزي حسن : السادسة ثانوي (علوم تجريبية)
العلاوي ميلود : السادسة ثانوي (علوم تجريبية)
أفقير محمد : السادسة ثانوي (علوم تجريبية)
أبرو محمد : السادسة ثانوي (علوم تجريبية)
الطرهوشي علي : السادسة ثانوي (الآداب العصرية)
لم نتمكن من التسجيل بطنجة إلا بعد جهد جهيد ، إذ جل المؤسسات التي طرقنا بابها رفض مدراؤها تسجيلنا بدعوى الانتساب إلى ثانوية امزورن التي كانت معروفة آنذاك بتاريخها النضالي على الصعيد الوطني .
وبعد أكثر من عشرة أيام تمكنا متن التسجيل في ثانوية عباس السبتي التي لم تكن قد انتهت أشغال بناءها بعد خلال هذا الموسم ، مما جعلنا نتابع دراستنا في مركز تكوين أساتذة السلك الأول ( ). لكن مع مضي شهرين على أكثر تقدير ، أحسست بشبح الطرد يطاردني في كل لحظة (ولعل هذا الإحساس انتاب بقية زملائي) خصوصا بعد توصل النيابة الإقليمية بطنجة لملفاتنا المدرسية التي ولا شك قد أفزعت مسئوليها لما تضمنتها من ملاحظات وعبارات مكتوبة بالخط الأحمر من قبيل تلميذ خطير جدا .. (أو) ماركسي – لينيني ... إلى غيرها من التهم الزائفة.
فكرت جديا في الرجوع إلى ثانوية امزورن من جديد، وبعد تفكير عميق و استشارة أحد الأصدقاء القاطن ببني بوعياش توصلت إلى ضرورة نهج أسلوب التحايل على الإدارة وهو أن أوقع التزاما خارج امزورن وبالضبط من جماعة بني بوعياش وذلك بمساعدة هذا الصديق الذي اتصل بشخص كان يعمل مياوما وعلى علاقة به فقام بالتوقيع على هذا الالتزام وتمكنت من التسجيل من جديد بثانوية امزورن. أود هنا أن أقدم اعتذاري لهذا الشخص (الذي بالمناسبة لا أعرفه حد الآن) ، على ما تعرض له من تعذيب ومعاناة بسبب هذا الالتزام اللعين في كوميسارية الحسيمة حيث اعتقل بعد حوالي شهر من صدور مذكرة البحث لاعتقالي أواخر يناير من سنة 1989 .
وتجدر الإشارة هنا أن الزملاء الذين تركتهم في طنجة قد تم طردهم بمجرد وصول ملفاتهم المدرسية و كذلك بالنسبة لمن توجه إلى فاس و أذكر من بينهم الأخ بلمزيان محمد، القباعي محمد، أمغار عبد الحكيم ....
استأنفت نشاطي النقابي بمجرد أن دخلت إلى المؤسسة. جانب مناضلين آخرين لم تطلهم آلة التصفية خلال الموسم الماضي أذكر أنه في يوم الخميس 19 يناير 1989 قررنا إحياء انتفاضة 1984 و الاستعداد لتخليد الذكرى الثانية لاستشهاد أكروح فريد وبودوفت سعيد. وقبل ذلك بيوم واحد أي يوم الأربعاء على الساعة الحادية عشر ليلا قام قائد امزورن ومعه عناصر من القوات المساعدة و الشيخ ومقدم الحي الذي أسكن فيه حديثا بالهجوم على منزل أحد أعمامي، وبعد حمله سيارته طلب منه بلهجة صارمة أن يدله على عنوان سكناي. وعندما وصلوا إلى باب المنزل أمر القائد بدق الباب للسؤال عني بينما قام هو وموكبه بالتخفي في زاوية مظلمة تتيح له إمكانية القبض علي بمجرد أن أفتح الباب. لكن لحسن حظي لم أكن في البيت في هذه اللحظة لأتي كنت آخذ جميع احتياطاتي في هذه الظروف العصيبة وأتفادى المبيت في المنزل خوفا من اقتحامه في أية لحظة .
وأعود إلى يوم الخميس ذكرى انتفاضة يناير 1984 وفي الساعة العاشرة إلا عشر دقائق، قمنا بعقد تجمع جماهيري كبير حضره جل تلاميذ المئسسة، وقمت بإلقاء كلمة بهذه المناسبة. وعندما دق الجرس التحقنا بالأقسام لمتابعة الدروس وأتذكر أنني كنت في قسم الفرنسية في الطابق الأسفل خلف الجانب الأيسر للإدارة مباشرة. ولم تمض سوى ربع ساعة على ابعد تقدير حتى فوجئنا بهجوم من طرف قوات الدرك فضلا عن وحدات من القوات المتنقلة وهي تتجه نحو القسم الذي كنت فيه فلم نتمالك أنفسنا من شدة الخوف فقمنا بالقفز من النوافذ اتجاه السور الخلفي للمؤسسة وكنت أول من قفز لأنني كنت جالس على مقربة من النافذة.
لقد أسفر الهجوم الذي امتد إلى أقسام مجاورة للقسم الذي كنت فيه عن اعتقال الزميل البضموسي عبد السلام الذي كان يجلس بجانبي فضلا عن الزميل أفقير محمد من القسم نفسه والذي تمكن من الفرار بعد ذلك قبل أن يدخلوه في سيارة الدرك. أما الأول فقد نقلوه إلى كوميسارية الحسيمة ليعذبوه كالعادة وبعد ذلك إلى المحاكمة بتهم زائفة لتصدر في حقه حكما بالسجن لمدة عشرة أشهر نافذة.
وجدير بالذكر أن هذا الهجوم قد خلف فوضى عارمة في الثانوية، إذ كان بإمكانه أن يخلف قتلى وجرحى في صفوف التلاميذ وذلك بسبب التدافع في الأدراج والقفز من النوافذ والطوابق العلوية...
مباشرة بعد هذا الهجوم، اشتد الحصار وتم تطويق الحي بعناصر البوليس السري إضافة إلى المقدمين والشيوخ الذين تناوبوا على حراسة منزلي ليلا ونهارا وشردوا إخوتي الذكور الذين غادروا المنزل خوفا من اعتقالهم واتخاذهم وسيلة للدخول إليها والعبث بمحتوياتها. بل بلغت ساديتهم حد الضرب بالحجارة إلى سطح المنزل ومحاولات تكسير الباب في ساعات متأخرة من الليل لترهيب العائلة وممارسة نوع من التعذيب النفسي عليها. مما أدى إلى إصابة والدتي باضطرابات على مستوى القلب ما زالت تعاني منها إلى حد الآن.
اشتد الضغط على عائلتي وأصبح شبح الجوع يهددها بعد نفاذ كل شىء من المنزل ولا أحد بإمكانه أن يقترب إليها وأمام هذا الوضع تجرأ أحد الأقارب لتفقد العائلة ومساعدتها على اقتناء ما تحتاجه من مؤن و مواد. وبمجرد أن وصل إلى باب المنزل اعتقلته وحدة من الدرك الملكي وقائد المدينة الذي كان مصحوبا بعناصر من القوات المساعدة.
هذا الشخص يدعى ليخلوفي محمد كان يعمل تاجرا متجولا ومتزوجا له أبناء يعيلهم بتجارته البسيطة، أمي ولا يعرف الدارجة المغربية. وبعد نقله إلى كوميسارية بالحسيمة عذبوه أشد العذاب ظنا من الجلادين أنه تمنع وأبى أن يقدم المعلومات حول مكان اختبائي والواقع أنه لم يفهم حتى موضوع الأسئلة التي كانت تطرح عليه. ولقد بقي هناك أكثر عشرة أيام ليتم إطلاق سراحه فيما بعد.
وفي يوم الاثنين 23 يناير 1989. أقدمت الإدارة على طردي من المؤسسة ضمن لائحة تضم حوالي 13تلميذا أذكر من بينهم: السويقي سعيد- أهباض محمد- السكاكي محمد- الأحمدي شعيب- شعطوط سعيد- التركي ع السلام.
والجدير بالذكر أن هذا القرار تم اتخاذه من طرف المجلس التأديبي الذي هو في الأصل قرار بالتوقيف لمدة خمسة عشر يوما مع توقيع التزام إداري. وهو ما يعني بالنسبة للمطلوبين منا شرطا تعجيزيا وبالتالي طردا نهائيا.
وفي هذه الأثناء بدأ مسلسل جديد من التشرد والضياع والمعاناة القاسية وأنا لم أبلغ بعد الثامنة عشرة سنة، طرد من الدراسة، حصار المنزل، المبيت في العراء خلال فصل الشتاء، الجوع ،والملاحقات البوليسية...
وبعد تضييق الخناق على عائلتي فكرت مرارا في تسليم نفسي للسلطات لوضع حد لمعاناة أسرتي. لكن كنت أدرك جيدا أن اعتقالي في هذه الظروف يغني إضافة متاعب جديدة لعائلتي فضلا عن شبح التعذيب والمعاناة التي باتت تصاحبني وتشكل هاجسا يوميا. خاصة بعد اعتقال الرفيق الميلودي محمد وصدور الحكم بسجنه مدة ثمانية أشهر بعد معاناة قاسية من جراء التعذيب الذي مورس عليه في كوميسارية كل من الحسيمة والناظور.
وبعد تكثيف الدولة لحملات المطاردة ومداهمة البيوت بامزورن. وبعد أشهر من التشرد والمعاناة قررت مغادرة امزورن في اتجاه مدينة تطوان لتبدأ فصول أخرى من المطاردات هذه المرة في شوارع وأحياء مدينة تطوان رفقة مناضلي الحركة الطلابية ومع فصيل الطلبة القاعديين تحديدا.
محمد خلقي امزورن في 21 يناير 2005
ملحوظة: أعتذر لمن لم أذكر أسماءهم في هذه الشهادة لأن ضحايا هذه الأحداث كثيرون.
تخليدا لذكرى 21 يناير إليكم الجزء الأول من شهادة تلميذة عاشت أحداث 1987. هذه الشهادة التي كانت ستعرض في ثانوية إمزورن مساء يوم 21 يناير2014..
اعتقدنا في ذلك الأربعاء الدامي أن الأمور ستتصاعد حد الموت بعدما وصل الحوار بين التلاميذ و الإدارة إلى نفق مسدود.
كان الإصرار و التحدي يسكننا لإيماننا بعدالة قضيتنا، و شرعية مطالبنا التي كانت على بساطتها بعيدة المنال. لقد حاولت الإدارة - بتحالفها مع المخزن و الأعيان - أن تثنينا بطرق دنيئة، متعمدة الطعن في شرف و أخلاق التلميذات المناضلات على الخصوص، و لعبت على هذا الوتر لحساسيته بالنسبة للمجتمع، إلا أن محاولاتها باءت بالفشل، فقد كانت عزيمتنا أقوى من كل شيء.
كان ذلك اليوم (الأربعاء) يوحي بأن الأمر جلل، فالأجواء كانت مشحونة و المكان كان مهيبا و الجمع غفيرا، و حين خيرنا بين الأمرين، كان أحلاهما مرّ: إما الاستسلام و كأن شيئا لم يكن، و إما إعطاء الأمر لتستباح حرمة الثانوية، فاخترنا التوجه إلى ساحة الرياضة للاعتصام، لكن قوات القمع اقتحمت المؤسسة بعد دقائق قليلة، ليقف التلاميذ لهم بالمرصاد، خصوصا الكبار منهم، فقد كان دورهم هو تعطيل الجحافل بالحجارة، حتى يتسنى للفتيات، و أطفال السلك الإعدادي الهروب من الخلف.
و قد كانت فرصتنا للنجاة ضئيلة، مما جعل أحد الطلاب يفتح باب بيته الذي كان يقطنه، لنختبأ نحن هناك، و يعود هو لأحد أقربائه في الخارج. إلا أن الأمر لم يدم طويلا، فقد سمعنا بأن قوات القمع تقتحم كل البيوت المجاورة، و هذا ما أدى إلى تأميننا للهروب من جديد صوب النكور، لنخلع عنا و نخبئ كل ما يوحي اننا تلميذات، في محاولة منا لتمويه العناصر الامنية و السلطاتعلى اننا لسنا من تلميذات الثانوية بالبتة.
و ما هي إلا ثواني معدودة حتى تم كسر باب المنزل و اقتحامه و العبث بكل محتوياته.. و شاءت الأقدار أن تكون وجهة بعض الطلبة هي مرافق المؤسسة الداخلية (القسم الداخلي و المراحيض) لأنها كانت الأقرب،كما هو الشأن بالنسبة للشهيد فريد، ذلك الشاب اليافع الطويل القامة، و القوي البنية، الأسمر اللون، الهادئ الطباع.. كان في سنته الأخيرة بالثانوية. لم تتح له فرصة الخروج، فتوجه إلى المرحاض ليختبئ هناك، غير أن أحد الحراس دل آلة القمع على مكانه، فأشبعوه ضربا بالهراوات إلى أن سقط مغشيا عليه و فاقدا للوعي، و ظل ينزف لمدة طويلة ليتم سحبه باتجاه الإدارة و إلقائه على البلاط في جو من الارتباك و التخبط الشديد، و كل واحد منهم كان يحمل المسؤولية للطرف الآخر. ووسط هذا الجدال و النزاع ظل فريد ملقى على الأرض يئن بصمت، و لم يتم إسعافه بسرعة، و لم يدري أحد منا ماذا جرى إلا بعد أن تناهى إلى أسماعنا صوت سيارة الإسعاف الذي اخترق جدار صمت لف إمزورن في ذلك اليوم الحزين. كان السائق يسابق الزمن عله ينقذ الجريح، و ما إن وصل إلى المستشفى و عاينه الأطباء و تأكد الجميع أنه ميت لا محالة، أسلم فريد روحه الطاهرة في تلك الليلة، على سرير العار و البؤس، و قد يكون نفسه سرير فاطمة! من يدري؟
أما سعيد بودفت ذلك الطفل البريء الصغير السن، لم تكن له علاقة بالإضرابات لا من قريب و لا من بعيد، فقد كان في الفصل مع زملائه، و حين أرسلته أستاذته لإرجاع دفتر النصوص إلى الإدارة، باغثته العناصر الامنية –في ساحة المؤسسة- بالضربات كالصاعقة من كل الجهات.. ولم يرحموا صغر سنه و لا إعاقته الجسدية، وقد دافعت عنه أستاذته و انتشلته من براثينهم. و لما عاد إلى البيت ساءت حالته و ارتفعت حرارته، فظل يتقيأ دما مما يوحي بأن نزيفا داخليا قد أصابه، و كان لنا زميل في القسم يشاركه المسكن، فلم يجد حلا إلا اللجوء إلى صاحب البيت لإخباره بخطورة وضعية الطفل، فرافقه لتفقد الوضع إلا أنهم ظلوا يطرقون باب البيت دون مجيب، فاضطر رفيقنا لتسلق الحائط و عند نزوله كانت الصاعقة.. لقد وجد سعيدا ميتا دون حراك، و هو جالس متكئا بظهره إلى الحائط.. فظل صاحبنا يصرخ بلا مجيب. و في الصباح انتشر الخبر كالنار في الهشيم، فكان رد فعل التلاميذ أن تصرفوا بسرعة كي لا تتدخل قوات القمع، فتمت مراسيم الدفن بسرية تامة، و بكاه الجميع و ودعوه بشعارات جد مؤثرة، وقد كانت هناك صور لجنازته لا أدري هل لا يزال أحد منا يحتفظ بها لكثرة ما نقلناها من بيت إلى بيت، خوفا من المداهمات و الاعتقالات. بعد الصدمة الأولى جمعنا شملنا ثانية، و توجهنا إلى الثانوية بعزيمة من حديد و الحزن يسكن الجميع و كان الشعار الأكثر تأثيرا في القلوب هو: ''حقوقنا طالت علينا فريدنا مات شهيدا _ حقوقنا طالت علينا سعيدنا مات شهيدا'' .. و هكذا ظلت الأمور بين الإدارة، في شد و جذب بين اعتقالات مكثفة في صفوف الناشطين، و طرد تعسفي لكثير من التلاميذ و انتقالات تعسفية بالجملة. و قد كنت أنا تلميذة في السنة السادسة ثانوي شعبة الآداب وقد تعرضت أنا الأخرى للطرد التعسفي.
ملاحظة: التلميذة تتحفظ عن ذكر اسمها نظرا لأنه محاط بسياج من المحافظة و الاحترام.
مواضيع ومقالات مشابهة