اثار تعيين احد القاعديين السابقين في منصب سفير الكثير من ردود الافعال و خاصة بين ابناء الريف بحيث هناك من اعتبر ان ذلك التعيين خيانة و ضربة موجعة لكل من يحاول اعادة الثقة في النضال و النفوس بعد الهزات العنيفة التي تعرض لها اليسار المغربي على اثر التحولات العالمية و الداخلية و خاصة بعد تجربة الانصاف و المصالحة و ادماج العديد من اليساريين في منظومة النظام دون ان يراعون اي اهتمام للألم و للمرارة التي اصابت رفاقه و لا للانتقادات التي توجه لهم من طرف المتعاطفين مع اسرة اليسار الذين كان الى حد قريب يشكل ذلك الذرع الواقي ضد سياسات النظام الرجعية و الظلام.
تعدد الاسباب
يصعب حتى على المناضلين اليساريين فهم ما جرى و ما يجرى و احرى عامة الناس و المتعاطفين معهم، لذلك فلا استغراب من نفور الناس من اليسار و السياسة ككل. فمن السهل ان نتهم اشخاصا بالعمالة و الخيانة و التراجع و الانحراف لكن من الصعب تفسير هذه الظاهرة الخطيرة و العمل على وقف النزيف و حماية المناضلين من اليأس و الاحباط و الاندحار و الفقر …
في نظرنا يمكن ارجاع اسباب ارتماء العديد من المناضلين في احضان المخزن الى عدة عوامل يمكن ان نذكر منها و لو باختصار شديد ما يلي:
1- فقدان البوصلة السياسية لليساريين بعد الجامعة و انهيار الاتحاد السوفياتي
ادى انهيار نموذج الاتحاد السوفياتي الى ترك اليسار تائها ايديولوجيا مما جهل من يكتفى فقط بالنموذج الغربي (الديموقراطيات الليبراية) و الارتماء في احضان المسماة بالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية. كما لم تعد الاحزاب اليسارية المغربية تتحدث عن النموذج اللينيني للأداة الثورية و لم تعد تتشبث بالماركسية اللينينية إلا للاستئناس بحيث اصبح الجميع يتحدث عن “الاستفادة من كل التجارب ألاشتراكية و الانسانية” مما يدخل الجميع في المتاهات الايديولوجية و السياسية و يصعب (برفع الياء) اكثر الوضوح الايديلوجي و ارباك المناضلين و المتعاطفين مع اليسار. اما الجامعة المغربية التي كانت دوما تنتج اطرا للمجتمع و الدولة فالى حدود علمنا فان اليساريين انشطروا الى اشلاء يصعب ضبطها او جمعها على كلمة او موقف واحد مما يجعل مستقبل اوطم و الحركة الطلابية في مهب الريح. فبدل الفصائل التاريخية الخمسة لاوطم اضحى اليسار منقسما الى ثوريا و تروتسكيا و ماويا و عماليا و اشتراكيا و تقدميا و ديموقراطي و برنامجا مرحليا دون اي استراتيجية تذكر.. دون ان ننسى فاعلين جدد اخرين من اسلاميين و امازيغيين يمينهم و يسارهم.
2- فشل في بناء تنظيمات حزبية قوية قادرة على حماية مناضليها و ردع منحرفيها
لم تسطيع فصائل اليسار الجذري المغربي ان تقدم مجتمعة او متفرقة لبديل قادر على الاقل تعويض الاتحاد الاشتراكي الذي تراجعت شعبيته و هيبته بشكل مذهل بعد مشاركته في الحكم و الانشقاقات التي عرفها و لازال.
لقد تراخت الاحزاب في التاطير السياسي و الايديوجي و التنظيمي مما سهل النظام اختراقها و غزوها ثم استقطاب العديد من مناضليها و اطرها و هذا ما تفطن اليه الحزب الاشتراكي الموحد و لو بشكل متأخر بعد ان شعر بان الحزب يتآكل بسهولة مفرطة و بدون مناعة تذكر بل اضحى فريسة سهلة لاستقطابات حزب الدولة. و في هذا الصدد يمكن الاشارة الى الاجراءات الاخيرة التي اتخذها هذا الحزب ضد بعض مناضليه و التي تبدو قاسية في حق البعض لكنها كانت ضروية لحماية الحزب و ارجاع له هيبته.
3- العيش على الماضي
للأسف فان اغلب قدماء اوطم و القاعديين لازالوا يقتاتون من الماضي و يعيشون على ماضيهم و بطولاتهم دون ان يبدلوا الكثير من الجهد للاجتهاد حول مالات اليسار و العمل على تقييم تجربتهم بهدوء و طرح بدائل ممكنة لإعادة الثقة في النفوس و رسم معالم المستقبل تنظيميا و سياسيا و استراتيجيا.
4- الفقر (نعله الله)
صح من قال "كاد الجوع ان يكون كفرا". اعترف بان هناك ابطال حقيقيين ضحوا بالغالي و النفيس و قضوا زهرة عمرهم في السجون و التضحية و بعد تخرجهم من الجامعة وجدوا انفسهم عرضة للبطالة و الفقر و البؤس دون ان ينتبه الي وضعهم احدا او يحتضنهم احد او يشجعهم احدا. تركوا (برفع التاء) و مصيرهم بأيديهم فلا رفاقهم فكروا فيهم و لا احد احتضنهم و انتبه لمعاناتهم و المهم بل لم يوجههم احدا و لم يهيئ لهم اطارا لانتظامهم و احتضانهم.
تركناهم يواجهون هراوات السيمي لوحدهم امام البرلمان و في الشوارع و باقي مؤسسات الدولة (فمثلا في بلجيكا كل مناضلي "فدرارية الطلبة الفرونكوفونيين (لافيف)"، يدمجون في دواوين الوزارات و البرلمانيين او في المؤسسات الحزبية و المدنية مباشرة بعد تخرجهم في الجامعة كأنهم يكرمون على نضالهم عكس المغرب الذي يكرم العديد من مناضلي الشعب المخلصين بالإذلال و بسنوات السجن و القمع لترويضهم او اسكاتهم.
هؤلاء المناضلين الكادحين لا يستطيعون الصمود لوحدهم كثيرا امام ضغط المجتمع و عائلاتهم و خاصة عندما يرون تلاميذا من الدرجة الثانية او لم يكونوا يساوون شيئا اصبحوا اليوم مدراء و وزراء و برلمانيين و سفراء و زعماء احزاب….الخ.
5- الاغراءات و عمليات الترويض
ان الوضع الاجتماعي القاسي للعديد من المناضلين (اعرف العديد منهم) جعلهم عرضة للإغراءات المادية ثم التوظيف في مؤسسات الدولة من مجالس و جهات و بلديات ووو…
ان ادماج هؤلاء في مؤسسات الدولة يسهل ترويضهم، بل احيانا يتسلقون بسرعة نظرا لتجاربهم و ذكائهم و تكوينهم حتى يصبحون اطرا للدولة ثم يدمجون في المنظومة المخزنية دون ان يشعروا او ان شعروا فلا يستطيعون التراجع امام قساوة انتقادات الرفاق من جهة و اغراءات المال من جهة ثانية.
6- قساوة بعض اليساريين مع بعضهم البعض دون شفقة و لا رحمة
ان كل متتبع لشانهم يمكن ان يلاحظ بان الرفاق اكثر شراسة و قساوة من بعضهم البعض. فلا احد تقريبا نجى من الاشاعات و السب و القذف و التخوين و الطعن من “ذوي القربى الاشد مضادة” حتى قال لي احدهم يوما ان “النظام اشد رحمة من بعض الرفاق” بحيث “قلة شغول” و العجز لدى البعض يجعل شغلهم الشاغل مراقبة هفوات الاخرين و تحركات رفاقهم الديناميكيين و طريقة لباسهم و تنفسهم فكم من مناضل تم تجليده في المقاهي و الحانات و الفايسبوك و التشهير به و بعائلته لأنه اجتهد و اخطا التقدير او حتى لم يخطئ.
7- غياب النقد الذاتي و الاعتراف بالأخطاء لتجاوزها
في اعتقادنا لا يوجد الكثير من اليساريين يعترفون بنواقصهم و ثغراتهم و ضعفهم و اخطائهم (فهذا “كاغطي” على هذا حتى تحدث الكارثة).
ان النقد و النقد الذاتي من اهم مبادئ الماركسية و الاعتراف بالأخطاء شيم من شيم المناضلين الصادقين. للأسف يعتقد البعض ان الاعتراف بالخطأ ضعفا و الاعتذار هزيمة في الوقت الذي نجد فيه ان الاعتراف بالخطأ تنبيه للجميع و تاطير للنفس و لباقي المناضلين لكي لا تتكرر الاخطاء. من منا لم يخطئ التقدير لو مرة واحدة في حياته او على الاقل اخطا في حق احد رفاقه و لو كان ذلك في اطار الدفاع عن النفس؟ عدم الاعتراف و الاعتذار بالأخطاء يترك الجراحات عرضة للتعفن و الامراض الفتاكة التي تقتل العلاقات الرفاقية و النضالية و تدمر الثقة بل تغتال التنظيم كله. الم يحن الوقت بعد لكي يعرف كل واحد منا قدر نفسه و انذاك فلا مانع لنا من مغادرتنا للسفينة شرط ان نتركها في حالة جيدة للذين يريدون ان يواصلون الابحار و مغامرة النضال.
8 دور النظام في اضعاف اليسار
هذا هو مربط الفرس فالنظام المغربي ما كان يوما يريد ان يرى احزابا قوية سواء اكانت يسارية و لا ليبرالية و لا حتى اسلامية مستقلة. في السبعينات و الثمانينات واجهها بالقمع الشديد و في التسعينات شجع بل استعمل الاسلاميين لتكسير شوكة القاعدين و سيطرتهم على الجامعات و اليوم و بعد ان تم اختراقها بشبه كلي بدا يستقطب اطرها سواء من اجل بناء احزاب ادارية او لإدماجهم كليا في منظومته و هكذا تم اضعاف اليسار و افراغه من العديد من اطره و التشويش على برنامجه…
الأمل: لابد ان ننهض و لم من تحت الرماد
رغم كل هذا فالشعب محتاج لمن يؤطره و يحميه و يحمي مكتسباته امام الاكتساح الشامل للمخزن و تحكمه في كل مرافق الحياة دون ان ننسى تنامي الفكر الداعشي الذي يهدد بإحراق الاخضر و اليابس و خاصة امام تفشي الجهل و فشل المدرسة العمومية من اداء دورها التربوي و التعليمي و التثقيفي و استمرار ازمة التعليم اللامتناهية مما يجعل كل اليساريات و اليساريين امام امتحان عسير لإعادة الثقة للعمل السياسي و الحزبي.
لست من دعاة التشتت و لا مناصرا لتعدد التنظيمات اليسارية فانا مع حزب يساري واحد او حزبين على اكبر تقدير شرط ان تكون هذه الاحزاب قادرة على استيعاب كل المناضلين الصادقين في المركز و الجهات بمختلف اجتهاداتهم الفكرية التقدمية و الديموقراطية و تجاربهم و تعددهم الفكرى و الثقافي و اللغوي و العمل على اعادة تنظيمها على اسس ديمقراطية تتبارى فيها التيارات ديمقراطيا و تمنح للتنظيمات القطاعية و الجهوية هامشا من الحرية في اختيار قادتها و سياساتها مع الالتزام التام للخط السياسي للحزب الذي تصادق عليه المؤتمرات بالاغلبية.
شهادة شخصية
اعرض هنا فقرتين من مشروع كتاب حول مذكراتي بالجامعة ابين من خلالها بان القاعديين لم يكونوا ابدا يطمحون للمناصب لا في السفارات و لا في الادارات و و انهم لا يهروب من المعارك.
لا انفي وجود اشخاص خانوا العهد و هم طلاب و اخرون غيروا جلدتهم بعد الجامعة. استغرب كيف يحدث ذلك و نحن نخون قناعاتنا و افكارنا و مبادئنا و انفسنا من اجل منصب لتثبيت ذلك النظام الذي ناضلنا ضده و نعتناه اكثر من مرة بـ"النظام اللاوطني و اللاديموقراطي و اللاشعبي". فماذا تغير اذن و نحن الذين كنا مستعدين للشهادة في اي لحظة من لحظات حياتنا. و انشر في هذا الصدد فقرتين/حدثين فقط تبرز كم كان و لازال استعددنا كبيرا للتضحية و الصمود و العطاء.
سعيدالعمراني