الموت الأخير لإبراهام السرفاتي لـ عبد العزيز المنبهي
أود بداية تقديم بعض الملاحظات بخصوص موت ابراهام السرفاتي. اننا بصدد تقديم فترة من حياة ابراهام السرفاتي وكنت أفضل أن تكون نهايتها شبيهة، على الأقل، ببدايتها، … إن الأمر يتعلق أساسا، وبشكل واضح وصريح، بتقييم الفترة الأخيرة من حياته، … أعني الفترة الممتدة من اللحظة التي وضع فيها قدماه في مطار الرباط عائدا من المنفى الى يوم دفنه، فهذه الفترة هي موضع الخلاف الجوهري في تقييم تجربته ككل. والقيام بتقييم نقدي موضوعي لها (على أساس مقياس وحيد: هل كانت في مصلحة أو ضد مصلحة الثورة والطبقة العاملة؟) هو الذي سيساعدنا على القيام بتقييم من هذا النوع للجزء الذي سبقها والذي لا يتسع المجال هنا لمناقشته ونقده رغم الترابط الوثيق القائم بينهما ان ثقل الماضي القريب هو أقوى من ثقل الماضي البعيد. وعلينا أن نتحرر أولا، وبأكبر قدر ممكنم من الأول حتى نتمكن من تقييم نقدي موضوعي هادئ للثاني. سيكون العكس خاطئ، ذاتي وانفعالي إذا ما نحن أغفلنا هذا الجانب.
إن موضوع النقد الذي يعنينا اليوم هي الأحداث والوقائع والمعطيات الملموسة، والأفكار والممارسات والمواقف المعبر عنها بالعلاقة مع الأهداف التي ادعى المعني بها والنضال من أجلها.
إن الشيوعيين الماركسيين اللينينيين، في تقييمهم لأفكار وممارسة مناضل، بشكل خاص، لا يضعون في الميزان، ومهما كانت مميزات وخصوصيات الظرف ، ماضيه وحده، ولا عدد السنوات التي قضاها في النظال، ولا العطاءات والتضحيات التي قدمها، مهما كان حجمها (فهذا يدخل في اطار البديهيات ولا يستحق لا جزاء ولا شكورا(، ولا موقعه في هرم المسؤولية. فالنقد الشيوعي لا يؤمن بالتراتبية ولا يمارس التمييز واللامساواة بين المناضلين، كما أنه ضد التقديس والتبجيل والتعظيم مهما كانت الأشكال والمضامين والصيغ.وهذا هو موضوع هذه السطور.
مما لا شك فيه أن بعض المتتبعين لما نشر عبر الانترنيت قد لاحظوا الهديان وفقدان الذاكرة والنفحة الماضوية التي طبعت المقالات وردود الفعل المدافعة عن ابراهام السرفاتي. فلا بد إذن من انعاش ذاكرة البعض وتهدئة اعصاب البعض الآخر. ولا بد أيضا من خلخلة ذهن آخرين لعل ذلك يساعدهم على المشي على الأقدام عوض الاستمرار في المشي على رؤوسهم.
وللحقيقة والتاريخ (كما أشار إلى ذلك على فقير) أذكر بما يلي:
إن عودة ابراهام إلى المغرب تمت عبر مفاوضات سرية بينه وبين النظام وبواسطة كرستين وسماسرة اشتراكيين، مغاربة وفرنسيين، وفي خفية تامة عن وسائل الإعلام وعن مجموعة رفاقه وعن كل القوى والجمعيات والشخصيات التي ساندته من أجل اطلاق سراحه وفيما بعد من أجل حقه في العودة إلى وطنه (انظر مقال كاتب هذه السطور المنشور مباشرة بعد عودة ابراهام السرفاتي ونحن نعلم أن لجوء الأحزاب الاصلاحية والتحريفية الى اسلوب المفاوضات السرية مع النظام الرجعي كان دائما محط معارضة قوية واذانة لاذعين من طرف الحركة الماركسية اللينينية المغربية. وخاصة منظمة الى الأمام (كان ابراهام في طليعة المدافعين عن وصف هذه المفاوضات بأنها خيانة في حق الشعب المغربي فهل يقبل ويسوغ، اليوم، لمن يدعون انتمائهم الى الحملم ويهلهلون بالاستمرارية ل “الى الأمام” وبالابداع في ثراتها وعطاءاتها، أن يمارسوا سياسة النعامة بالصمت والتزكية المخزيين لهذا الاختيار الطبقي في الصراع ضد عدو الجماهير الكادحة والطبقة العاملة خصوصا (اللذين ظل ابراهام دائما المدافعè عنهم على حد قول على فقير)، ولهذا الاسلوب الانتهازي والأناني في انتزاع حقوق ديموقراطية طبيعية ومشروعة من شاكلة حق الانسان في العيش والموت في وطنه؟ إن الجواب على هذا السؤال الذي يقض مضجع البعض لدرجة الأرق وأزمة الضمير يوجد، بصيغة درامية، في بيان الكتابة الوطنية للنهج الديموقراطي بمناسبة الموت البيولوجي للسرفاتي، والذي تعامى عن / وتحاشى الاشارة لهذه الحقائق والوقائع، تماما كما في بيانها بمناسبة الموت السياسي لهذا الأخير.
الأدهى من ذلك هو أن اجهزة المخابرات وطاقم الاستقبال الملكي كانت قد انتهت من كل ترتيباتها حتى تتم الصفقة السياسية كما قرر لها، بتنسيق مسبق مع ابراهام وكرستين. هذاغ في الوقت الذي دخل فيه المناضلون في سباق مع عقارب الساعة للالتحاق بمطار الرباط قبل هبوط الطائرة التي كانا على متنها (والذين أخبروا من طرف ابنه موريس دقائق معدودة قبل وصولها)، ثم بعد ذلك للعدو في اتجاه فندق هلتون، هؤلاء المناضلين الذين كانت تغيب عنهم كل فصول (وتفاصيل) المسرحية المفجعة التي ستعرض عليهم في واحد من أكبر فنادق الرأسمال العالمي والبرجوازية المغربية المتعفنة، فندق حفلات الميوعة وعرض الأزياء ومسابقات كلاب الأغنياء من مختلف مناطق العالم.
في هذه الأجواء، سيسعى النظام الملكي الاستبدادي والمهترئ، وهو في أوج ترنحه وضعفه، ليس فقط للنسف الخطير لرصيد عشرات السنين من الضغط الدولي والوطني ومن التضامن والمساندة العالمية والمحلية لقضية ابراهام السرفاتي، السجين والمنفي، ولما كانت ترمز اليه، وإنما أيضا وأساسا لتمرير الفصل الثالث (الاحتفاض بعبد الرحمان اليوسفي واقالة ادريس البصري شكلا الفصلين الأولين) من مناورة المستشارين الامبرياليين الهادفة الى لاكسب الوقت لاسترجاع انفاس الملكية وترتيب اوضاع الملك الجديد. هذا الفصل سيتمثل في تقديم البيعة من طرف واحد من أكبر العصاة والمتمردين على الملكية الاستبدادية واستكمال الاجماع الذي استعصى تحقيقه عن الآب المجرم، وابراز عودة السرفاتي كتكفير من طرفه على ما ارتكبه في حق الملكية، وبالتالي كعفو وكمنة من محمد السادس (هذا ما سمته الأحزاب الانتهازية والصحافة المرتشية بالاشارة القوية). وسيقدم السرفاتي للملكية هدية في طبق من ذهب، بتقديم البيعة والتوقيع على وثيقة موته السياسي، بداية بتصريحاته لوكالات الأخبار والاذاعات والصحافة الدولية والمحلية، ثم بعد ذلك لدى تصريحاته لوكالات الأخبار والاذاعات والصحافة الدولية والمحلية، تم بعد ذلك لذى تصريحه في القاعة الفخمة بفندق هلتون، أمام حشد من المناضلين: كلنا وراء محمد السادس.
سيتنكر السرفاتي، في أول يوم تطأ فيه قدماه أرض الوطن لأفكاره وقناعاته ومواقفه، وسيدير الظهر للشهداء ولرفاق السجن والكفاح ولأكبر وأهم جزء من نضاله ضد الملكية، عملية الاستعمار والامبريالية والصهيونية، وسيكف عن نقد ماضي وحاضر نظامها السياسي اللاوطني واللاديموقراطي واللاشعبي، الذي ارتكب جرائم سياسية واقتصادية وثقافية في حق الشعب المغربي وفي حق الشعبين الصحراوي والفلسطيني وشعوب افريقية متعددة، وباعتراف المدافعين عن حقوق الانسان داخل الوطن وخارجه. هكذا سيضل هذا الجزء من حياة ابراهام السرفاتي جزءا ملطخا بخيانة الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء والمعدومين وكل الكادحين والمستغلين في بلادنا، اللذين طالما دافع عنهم هكذا سيظل هذا الجزء جزءا مضادا للثورة الوطنية الديموقراطية الشعبية في بلادنا ولطموح شعبنا في الاطاحة بنظام القهر والاستغلال والعبودية وبناء وتأسيس الجمهورية الوطنية الديموقراطية الشعبية التي رفع شعارها ابراهام بالذات، وأمام جلادي ومحاكم النظام، جزء ملطخ بالاعتراف بالملكية الديكتاتورية، عملية الامبريالية والصهيونية والرجعية، أعداء شعبنا وأعداء كل الشعوب المحبة للسلام والاستقلال والحرية واللذين طالما رفع ابراهام راية الدعم والمساندة والتضامن معهم.
ولهذا الشكل، هذا الجزء من حياة السرفاتي ضربة للحركة التي كان واحدا من أبرز قادتها وطعنة في صدر المنظمة التي كان واحدا من أكبر مؤسسيها، جزء زرع الشك والتراجع والاحباط في صفوف الحركة الماركسية والورية والديموقراطية، في بلادنا وخارجها، وخلف جرحا وألما لا زالت آثارهما لم تمح بعد.
سينهزم ابراهام أمام هذه المناورة القدرة (وكم من مناورات أكبر وأدهى كشف عنها وفضحها وعارضها وأبطل مفعولها الرجل) لأنه ارتكب خطأ قاتلا في دخولها. وسيعمل النظام، كعادة كل الأنظمة المتفاشية والشرسة، إلى عزله وتطويقه والتسريع بمسلسل تنازلاته إلى حدود المس بالكرامة والتركيع والانبطاح.
فبعد التصريحات لوكالات الأنباء والإداعات والصحافة الدولية والمحلية، سيستمر السرفاتي على هذا الخط الانهزامي والتراجعي حتى آخر نفس، كما هو الشأن لدى جوابه على سؤال يتعلق برأيه في طبيعة حكم الحسن بأن "تقاليده لا تسمح له بالكلام عن الموتى، وفي نداءاته المتكررة للعمال الصناعيين وعمال المناجم وفئات كادحة من الشعب، طيلة الزيارات التي نظمها له النهج الديموقراطي لمناطق متعددة بالبلاد، بالاصطفاف وراء محمد السادس، وإيمانه وقناعته برغبة وارادة وعزيمة هذا الاخير في بناء وتأسيس دولة عصرية وديموقراطية؟ والتصريح لزواره بمدينتي المحمدية ومراكش بأنه قلق على حياة محمد السادس ويخشى عليه من انقلاب عسكري لأن أطر الجيش معارضة للمسلسل الديموقراطي الذي دشنه ويتشبث به.
والأخطر ما في الأمر (وهذا ما عبر عنه علي فقير بقوله للحقيقة والتاريخ أن ابراهام السرفاتي يكن تقديرا كبيرا للملك) هو أن السرفاتي، الذي ظل، دائما حسب على فقير، شيوعيا، وضع ثقة كبرى في محمد السادسوكان يكن له الامتنان والاحترام والتقدير (اليس هو الذي أعاد لابراهام هويته واعتباره واعترف بنضاله ضد الحسن حسب أحد معتقلي مراكش السابقين)، تماما كما كان من قبله ادريس بنزكري وحرزني واليازمي ومن التف حولهم من الخونة والانتهازيين، العطف والتقدير والامتنان لنفس هذه المؤسسة المتعفنة ولممثلها الأعلى.
إن ماضي وحاضر الملكية الدموية، الخائنة والمتعفنة، لا يسمح لها، بحكم طبيعتها الاستبدادية المعادية لحقوق الشعب والانسان في بلادنا، إن التعامل بمنطق آخر غير منطق التركيع والتمريغ في الوحل، ولا تعرف سياسة أخرى غير سياسة الابتزاز والتناور والتآمر والتحايل على هذه الحقوق وافراغها من مضامينها الحقيقية في حالة ما لم تستطع الاستمرار في الاستهتار بها. وهذا ما نجحت في تحقيقه، مرة أخرى، في حالة السرفاتي، تماما كما نجحت في ذلك مع الأحزاب الاصلاحية ومع الانتهازيين من كل حذب وصوب (عودة اليوسفي والفقيه البصري ومن لف حوله) وإلا فما كان على النظام الرجعي إلا أن يقر بحق ابراهام في العودة الى وطنه ليعود، مرفوع القامة والرأس، بدون قيد أو شرط، وبكرامته وشرفه، كما عاد العشرات من رفاقه المنفيين.
قلت في البداية انني كنت أفضل أن تكون نهاية حياة ابراهام شبيهة ببدايتها غير أن التاريخ، في مفهوم وتصور الشيوعيين – والذي نقر جميعا أنه من صنع البشر، لا يجري بما تشتهيه الرغبات، إنه يكون قاسيا على صانعيه أنفسهم حينما يحاولون معارضته ومعاكسته أو لي عنقه، ولو حصل ذلك في آخر لحظات حياتهم. فهذا التاريخ لا يقبل تبريرات ولا تسويغات من نوع “التقدم في السن أو الشيخوخة أو المرض أو الخوف من الموت(؟) والحق في الدفن في مسقط الرأس وحسب الطقوس والعادات، الى غير ذلك من البلاهات التي لا صلة لها بتصور وممارسة الشيوعيين للصراع الطبقي وللحرب الضروس التي تجري رحاها بينهم وبين أعداء الشعب. فالنضال الشيوعي ليس بمهنة ولا بوظيف يمكن أن يتوقف أحيانا برخصة طبية وينتهي بمجرد بلوغ سن التقاعد، انه التزام بقيم وسلوك ومبادئ وبقضية شعب ضد مضطهديه ومستغليه من أجل الثورة والحرية والاشتراكية، التزام لا يقبل الرجعة ولا التردد ولا الحل، دون حكم التاريخ. هذا التاريخ العنيد الذي لا يتردد لحظة في رفع صفة الثوري والشيوعي عن صاحبها بمجرد تقاعسه أو تشكيكه أو خيانته لهذه القيم والمبادئ والقضية. هذا الأمر ينطبق على الأفراد كما ينطبق، أيضا، على الحزب أو التنظيم السياسي الذي يدعي انتمائه لهذه القيم والمبادئ والأهداف والقضية.
فليكف ممارسو سياسة النعامة عن رفضهم الغبي لهذه الحقائق التي تفقئ العين، وليعلموا أن عنادهم الأبله في الاستمرار في مسح السماء بلقية، كما يقول المثل الشعبي، والاستمرار في الكذب على الشعب وعلى المناضلين، وتزييف الحقيقة والتاريخ، لن يدر عنهم سوى الاستهزاء والسخط والفضح والادانة، ولن يزيد سوى من احتداد تناقضاتهم ومن بؤس أفكارهم وعزلتهم والتسريع بارتمائهم في مزبلة التاريخ.
قد تبدو بعض العبارات والأحكام قاسية وعنيفة، غير أنني متيقن بأن المناضلين الثوريين والماركسيين اللينينيين يعلمون، أكثر من غيرهم، أن الطعنة كانت أعنف، أقسى وأقوى.
مواضيع ومقالات مشابهة