جـوانب الغمـوض في التعامل مع الاسلاميين لـ محمد الساسي
يطرح الكثيرون، بحسن نية، التساؤل المشروع التالي : هل الإسلاميون يقبلون، حقا، بالخضوع الكامل لبنود دفتر التحملات الديمقراطي المتعارف عليها، عالميا؟ يظهر أن الاستفادة من الحقوق الديمقراطية لا تطرح لديهم أدنى مشكل، فهم حين يوجدون بتراب بلد غربي يطالبون بالإعمال الأقصى لقواعد العلمانية بغية التمتع بثمارها؛ ولكنهم يرفضون الإعمال الأدنى لتلك القواعد في بلدانهم الأصلية، حتى لا يستفيد من ذلك أتباع ديانات أخرى .
العلمانيون يخشون أن يفضي تعاونهم مع الإسلاميين، في محاربة استبداد قائم، إلى تعبيد الطريق أمام وجه قادم للاستبداد أشد وأقسى وأعنف، وأن يترتب، ربما، عن الاستبداد الجديد، إلغاء هوامش الحرية القليلة التي كانت متاحة في ظل الاستبداد القديم.
عدم الاطمئنان إلى نوايا الإسلاميين مبعثه، في الغالب، طبيعة خطابهم عن الديمقراطية؛ فأقل ما يقال عن هذا الخطاب، رغم بعض المجهودات المبذولة هنا وهناك، هو أنه موسوم بالغموض. ويعتبر البعض أن هذا الغموض مقصود، لأن أصحابه يسعون إلى كسب ود فئات ذات منطلقات متعارضة. خطاب الإسلاميين، عموما، يتفادى الخوض في التفاصيل. ونعتبر أن الوقت قد حان، في المغرب، لإجلاء الغموض المحيط بالخطاب الإسلامي حول الديمقراطية ونهوض كل طرف سياسي بمهمة عرض أفكاره المفصلة عن الديمقراطية، كما يفهمها، وعن هندسة البناء المؤسسي الذي يقترحه، حتى تتضح المشاريع السياسية وينقشع الإبهام ويحمي كل منا الآخر من الوقوع في الغلط حول تصوراته. وحينها نتبين بدقة ما إذا كان الإسلاميون، أو غيرهم، قد رفعوا جميع تحفظاتهم عن الديمقراطية وارتضوها كنهج نهائي لا محيد عنه، أيا كانت الظروف والأحوال، أم لا. لكن حتى الآن، لا نستطيع القول إن أكثر الإسلاميين المغاربة رفع تلك التحفظات، ولا نستطيع الاطمئنان إلى نوع الأثر الواقعي المترتب عن عدم رفع "بعض التحفظات".
غموض الخطاب الإسلامي عن الديمقراطية يبرز من خلال عدة جوانب، كترديد لازمة مؤداها أن الديمقراطية ديمقراطيات، واستهجان الديمقراطية الغربية باعتبارها ديمقراطية "مادية" لا تقوم على أساس روحي، والقول إن الديمقراطية يتعين أن تُقبل في الحدود التي لا تتعارض فيها مع شرع الله وهوية الأمة، وإنها يتعين أن تُقبل كآليات وتُرفض كفلسفة، وكزرع أعضاء اصطناعية في جسم الديمقراطية، تربك أداء وظائفه الحيوية، وإضافة مؤسسات زائدة في المعمار الديمقراطي، تلغمه وتقوض دعاماته، ومحاولة الجمع بين بعض عناصر السلطوية وبعض عناصر الديمقراطية في خلطة عجيبة وغريبة، ورفع شعار دولة الخلافة... إلخ .
العلمانيون لا يعتبرون أن شعار دولة الخلافة ينتمي إلى الديمقراطية؛ وإذا كان من السهل عليهم إثبات انتماء الملكية البرلمانية إلى الديمقراطية، فهل يستطيع الإسلاميون الذين يرفعون الشعار المذكور إثبات انتمائه إلى الديمقراطية ومطابقته لمواصفاتها؟ وهل لدى رافعي الشعار، اليوم في المغرب، مرجع يحدد، بالدقة المطلوبة وبالمنطق الدستوري والمؤسسي، معنى دولة الخلافة أم يجب أن نكتفي بالمعنى الذي يقدم بمنطق ديني أو صوفي؟
والأدهى من ذلك أن تنظيم القاعدة رفع الشعار ذاته، وتنظيم (داعش) فعل الشيء نفسه، بل أعلن قيام الخلافة الإسلامية وحاول تطبيق الشعار على الأرض، وسمح، بالتالي، للجميع بأن يرى آثار هذا التطبيق وانعكاساته الدرامية على الحرية والعقل والمساواة وحقوق المرأة والقيم الإنسانية ومبادئ السلم والتعايش التي يجب أن تسود العلاقات بين الأمم والأديان والطوائف والأعراق. وهذا يخلق المزيد من المتاعب لرافعي الشعار، عندنا، ويربك موقفهم أكثر، فهل نأخذ بما تطبقه (داعش) على الأرض كتعريف لدولة الخلافة أم ننتظر، ما شاء الله لنا الانتظار، لكي نرى ما سيطبقونه، هم، على الأرض، لنتعرف على ماهية دولة الخلافة التي يبشرون بها والتي يقولون إنها ستكون مختلفة عما تصنعه (داعش)!.
ومن العناصر التي تبعث الشك في وجود اقتناع حقيقي بالديمقراطية وبمتطلبات الانتقال، لدى جزء غير يسير من الإسلاميين، قول بعضهم، بصدد المصادقة على الدستور التونسي، إن ما وقع، في تونس، هو تنازل من طرف الإسلاميين، وليس توافقا، بينهم وبين غيرهم. هذا يدل، ربما، على وجود عقلية ترى أن الأمر يتعلق بتنازل ما كان له أن يكون، أو أن الأطراف الأخرى لم تتنازل، أو أن تنازلها غير معتبر؛ إنها، في النهاية، عقلية تكاد تفتي، ضمنا، بلا جدوى التوافق في لحظة التفوق (أي في لحظة حيازة الإسلاميين لأغلبية انتخابية)، وإذا حصل أن تنازلوا فهذا إنما يمثل تكرما منهم، بينما كان يجب، في الأصل، أن يُنْظَرَ إليه باعتباره استجابة لإحدى ضرورات الانتقال، ولهذا تحرص تلك العقلية على إبراز جانب التنازل، في توصيف ما حصل، على حساب جانب التوافق، بينما لا توافق بدون تنازلات متبادلة. نَشْتَمُّ، ربما، من خلال العقلية المشار إليها استمرار ظاهرة الاستعلاء.
وكثيرة هي التصرفات التي تصدر عن الإسلاميين وتعكس منطق الاستقواء بالكم والعدد في مواجهة حقوق الآخرين، وفي التملص من واجب احترام التعهدات والالتزامات؛ ففي مسيرة 20 يوليوز 2014 بالرباط، كانت كثافة الحضور الإسلامي، الذي فاق حضور الأطياف الأخرى بأضعاف مضاعفة، مناسبة لكي تفرض جماعة العدل والإحسان "قوانينها" في الشارع العام، وتجلى ذلك في السلسلة البشرية التي تحولت إلى سياج حديدي يمنع اختلاط المتظاهرين بعضهم ببعض، وفي تغيير برنامج المسيرة وفرض جدول أعمال لم يقرره المسؤولون القانونيون عنها والذين تولوا تقديم التصريح الخاص بها إلى السلطات العامة. المشاركون في المسيرة يحترمون حركة حماس، ويحترمون خالد مشعل، ويحيون صمودها، بجانب الفصائل الأخرى، في غزة؛ ولكن، هل يعني ذلك منح جماعة العدل والإحسان حق إذاعة كلمة صوتية، مباشرة للمناضل مشعل، وكيف كانت الجماعة ستتصرف لو عمدت تنظيمات مغربية أخرى إلى برمجة كلمات قادة فلسطينيين آخرين من فتح أو الشعبية أو الجهاد...إلخ؟ مشهد الشارع، هنا، يتحول إلى ما يشبه ميدان الصراع السياسي الذي يصنع فيه الأقوى ما يشاء ويفرض الأمر الواقع ولا يحس بأي التزام إزاء بقية الأطراف، ويملي عليهم قواعد اللعب الملائمة له، بينما يتطلب الانتقال قيام توافق على تلك القواعد، بالشكل الذي لا يضر بمصالح أي طرف، في الحال أو في الاستقبال، سواء كان في المعارضة أو في الحكومة، وسواء كان أقلية أو أغلبية.
ومما يؤاخذ عليه الإسلاميون، بمن فيهم الذين يُقَدَّمُونَ على أنهم الأكثر اعتدالا، سماحهم لأنفسهم باعتماد أشكال من الازدواجية، في التصرف والسلوك، تتأذى منها العملية الديمقراطية، وتساهم في زرع الشكوك، لدى الآخرين، في مدى تشبع الإسلاميين بالفكر الديمقراطي ومدى وعيهم بالواجبات التي يفرضها على كل الأطراف السياسية. يمكن، في هذا الصدد، أن نقدم ثلاثة أمثلة :
- الازدواجية التي تظهر في العلاقة بين "القانون الوضعي" و"الشريعة الإسلامية". إسلاميو العدالة والتنمية صادقوا على مدونة الأسرة، ويعلنون، دوما، تشبتهم بتسييد القانون؛ ولكن بعضهم، باسم مباشرة العمل الدعوي، يحث الناس، بدون أي إحساس بالذنب، على تنظيم أمور حياتهم وفق قواعد مخالفة لما جاء في المدونة، كما لو أن هذه الأخيرة غير موجودة وغير ملزمة، ويتعمد إخفاء ما جاء فيها بدعوى أن القواعد التي يفتي بإعمالها هي، وحدها، التي تطابق الشريعة! ويمكن أن ينجم عن ذلك إسقاط المجتمع في نوع من الطائفية التي يكون فيها لكل مجموعة منه قانونها الأسري الخاص بها ولو اتحدت كلها في الديانة؛ والحال أن الدستور يكفل لكل طرف في مجلس النواب، يعارض مقتضى من المقتضيات التشريعية، حق التقدم باقتراح قانون معدل للمقتضى؛
- الازدواجية بين "الدعوي" و"السياسي". من حق أي أحد أن ينشر، بين الناس، ما يعتبره مبادئ صحيحة للإسلام، وأن يمارس الإرشاد والتوجيه الدينيين، وأن يدعو إلى إتباع التعاليم الدينية والتزام الفروض والشعائر الإسلامية، وأن يعمل، على تعميق الوعي بقيمة الحضارة العربية الإسلامية وجلال الرسالة المحمدية والاعتزاز بأمجاد الأمة وتاريخها، ولكن نفس الشخص، عندما يعمد إلى إرفاق ذلك بالدعوة إلى مشايعة حزب من الأحزاب ومساندته انتخابيا ودعمه ماديا ومعنويا، فإنه يجرد العمل الدعوي من قيمته الروحية وهدفه النبيل المجرد، ويظهره في صورة وسيلة مستنفرة لخدمة هدف حزبي وتسهيل وصول فريق من الفاعلين السياسيين إلى السلطة، ويضر بحقوق الفاعلين الآخرين وبمبدإ تكافؤ الفرص، ويوظف الدين في الصراعات السياسية. طبعا، من حق كل طرف سياسي أن يصنف نفسه في خانة الأحزاب "ذات المرجعية الإسلامية" لكن المهم، من الناحية الديمقراطية، هو طبيعة البرنامج الذي يتقدم به إلى المواطنين، والذي يمثل أساس التعاقد معهم وليس "المرجعية الإسلامية" لكن انتماء الأفراد، أنفسهم، إلى قاعدة أو أجهزة ما يسمى بالأذرع الدعوية والخيرية للحزب ومباشرة مهام مرتبطة بها، وانتماءهم، في الوقت ذاته، إلى قاعدة أو أجهزة الحزب ومباشرة مهام مرتبطة به، يطرحان مشكلا أخلاقيا حقيقيا؛
- الازدواجية "المرجعية" التي بمقتضاها يتم الإعلان المبدئي عن اعتماد كتابات الرموز النافذة والآباء الروحيين للتنظيمات، واعتماد الوثائق الصادرة عن الهياكل الجماعية لهذه التنظيمات، رغم وجود عدد من عناصر التباين والتعارض، أحيانا، بين الكتابات والوثائق المشار إليهما. وبذلك يسود الخلط ولا يستطيع الملاحظ الموضوعي أن يتبين حقيقة المواقف والاجتهادات والأفكار التي يتبناها التنظيم، فعليا؛ وقد يفضي الأمر إلى التصريح بأن موقفا معينا هو الموقف الرسمي للتنظيم والتصريح بأنه ليس كذلك حسب الظروف.
ورغم كوننا لا نستطيع الجزم بأن خطاب وتصور جميع العلمانيين عن الديمقراطية استوفيا الكمال، من حيث الوضوح والجلاء والدقة، فإن الأصوات المستنيرة، داخل الحركة الإسلامية، مطالبة أكثر ببذل جهود جمة لإزاحة جوانب الغموض واللبس التي تغشى خطاب هذه الحركة وتصورها عن الديمقراطية، وتحريرهما من الزوائد والأعشاب الضارة والأفكار المتعارضة مع جوهر المشروع الديمقراطي المتعارف عليه...
محمد الساسيمواضيع ومقالات مشابهة