استقالة توبيرا.. عندما تنتصر المبادئ على السياسة لـ علي أنوزلا
لم تترك كريستيان توبيرا، وزيرة العدل الفرنسية المستقيلة، أي شيء للصدفة. كانت تدرك بحس أهل الجزر النائية والمعزولة، أنها أمام لحظة حاسمة وفاصلة في مسارها المهني. لذلك حرصت أكثر على طريقة الإخراج وليس على طريقة الخروج من الوزارة الذي أعلنه قرار استقالتها.
كان كل شيء بسيط يشبه صاحبته لكنه عميق ومؤثر مثل كلماتها القوية. خوذتها، معطفها الواقي من المطر، ودراجتها الهوائية، والشارع العام كمسرح مفتوح على الهواء الطلق.
الفيديو الذي يصور طريقة رحيل الوزيرة، التي فضلت ركوب دراجتها الهوائية، على ركوب سيارات الوزارة المصفحة، والخروج من باب الوزارة وتحت تصفيق موظفيها، انتشر كالنار في الهشيم في جميع المواقع الاجتماعية وخلف الآلاف من التعليقات المتعاطفة ومنها المنتقدة للوزيرة التي كانت دائما مثيرة للجدل.
غادرت توبيرا الوزارة كما جاءت إليها أول يوم، على متن دراجتها الهوائية، في سلوك نادر في فرنسا "الجمهورية الملكية". وغادرت الحكومة كما جاءت إليها بنفس المبادئ والمواقف التي رفضت دوما أن تساوم بها أو تتنازل عنها، مما جعلها مثار جدل ونقاش وانتقاد وصل أحيانا إلى حد التجريح العنصري، عندما قالت عنها صحفية يمينية في تشبيه عنصري بأنها "ذكية مثل قرد"، ورسمتها الصحيفة المثيرة للجدل "شارلي إيبدو" على هيئة قرد.
غادرت توبيرا الوزارة والحكومة، لكن كلماتها ستبقى حاضرة كرمز على انتصار المبادئ على السياسة، وانتصار الأخلاق على المصالح.
كلمات بسيطة ركزتها توبيرا في تغريدة على حسابها على "تويتر" قالت فيها: "أحيانا المقاومة تعني البقاء وأحيانا المقاومة تعني الرحيل لتكون الكلمة الأخيرة للأخلاقيات والحق".
استقالة وزيرة العدل، أو "حافظة الأختام" كما تسمى في فرنسا، لم تكن مفاجئة، لكن طريقة الإخراج البسيطة صنعت منها الحدث. فخلافات توبيرا مع رئيس الحكومة مانويل فالس ليست جديدة، وإنما ظهرت منذ أن كان فالس يشغل منصب وزير الداخلية، ويغلب المقاربات الأمنية على المقاربات القانونية في التعاطي مع المشاكل الكثيرة التي يواجهها اليوم المجتمع الفرنسي. لكن النقطة التي أفاضت الكأس هي تقديم رئيس الوزراء للنص النهائي من مشروع قانون إسقاط الجنسية على مزدوجي الجنسية إن ثبت تورطهم في قضايا الإرهاب، وما سيشمله الإصلاح الدستوري فيما يخص حالة الطوارئ المعلنة منذ شهر نوفمبر الأخير وتمديدها إلى ثلاثة أشهر أمام النواب.
ويرجع سبب استقالة توبيرا إلى اعتراضها على المشروع المقدم من الحكومة للتعديل الدستوري والذي سبق وأن أعلن عنه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند مباشرة عقب هجمات 13 نوفمبر الماضي، وهو الاعتراض الذي أفصحت عنه وزيرة العدل ليس فقط لأنها من بين المدافعين على حق الأرض ومكان الولادة بفرنسا والمساواة بين المواطنين، وإنما انحيازا لقيم الثورة الفرنسية، ولمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي صيغت في فرنسا، وأخيرا انتصارا للمبادئ على السياسة.
هذا الرحيل بكل أبعاده الصدامية والرمزية، لوزيرة ستترك كلماتها القوية وخطبها العصماء أمام البرلمان والقوانين المثيرة للجدل التي أقرتها أثرها في الساحة السياسية الفرنسية، يأتي ليتوج نهاية حكم أضعف رئيس اشتراكي في فرنسا فضل أن ينتصر لرؤية رئيس حكومته الضيقة على ضمير وزيرة العدل في حكومته التي دقت آخر ناقوس خطر وهي تغادر الحكومة وقلبها خائف على مستقبل الجمهورية.
كان يمكن لتوبيرا أن تتنازل أو تبرر عجزها أو فقط أن تصمت لتحافظ على كرسيها في الوزارة، لكنها اختارت شيئا آخر، اختارت الانتصار لمبادئها والوفاء لقناعاتها.
وكما قال سلفها الاشتراكي وزير الدفاع أيام الحرب على العراق عام 1991، بيير شوفينمون، عندما قدم استقالته احتجاجا على مشاركة بلاده في تلك الحرب المدمرة: "على الوزير أن يصمت أو يستقيل"، اختارت توبيرا الاستقالة على الصمت. وسيسجل لها التاريخ استقالتها أما الصمت فيأكل أصحابه مثلما تأكل دابة الأرضة الأشجار حتى تخر وهي واقفة.
مواضيع ومقالات مشابهة