الهجوم على نقابة الصحفيين المصريين.. إخراس للشاهد! لـ علي أنوزلا
منظر رائع هو ذلك الذي شاهدناه داخل نقابة الصحفيين المصريين أثناء إعلان قرارات جمعيتها العمومية. آلاف الأيدي المتشابكة مرفوعة إلى السماء وحناجر حرة وقوية تردد بصورة واحد: "ارفع راسك فوق.. أنت صحفي".
المناسبة هي إعلان قرارات الاجتماع الطارئ الذي عقدته الجمعية العمومية (المؤتمر العام) لنقابة الصحافيين المصريين التي تظم الآلاف من العضوات والأعضاء، عقب اقتحام عناصر من الأمن التابعة للداخلية مقر النقابة لاعتقال صحفيين مصريين من داخل حرمها.
قرارات الجمعية العامة جاءت واضحة وحملت كلمة النفير العام والأخير للصحفيين المصريين لإنقاذ ما تبقى من حرية وكرامة. يقول بيان الجمعية العامة: "لم يعد أمام الصحفيين سوى الاصطفاف معاً لحماية كرامتهم ونقابتهم من الهجمة الأمنية الشرسة التي تستهدف تكميم الأفواه ومصادرة المجال العام، وملاحقة الصحفيين ومحاصرة نقابتهم".
إن أحد أهم المعايير الأساسية التي تعتمدها المنظمات الحقوقية الدولية لقياس درجات حرية التعبير والديمقراطية في أي بلد، هي الطريقة التي تتعامل بها حكومة البلد مع الصحفيين، وهامش الحرية التي يتمتع به الإعلام داخل نفس البلد.
وهذان المعياران أصبحا اليوم غائبين في مصر منذ انقلاب 3 غشت 2013، عندما تقلصت الحرية إلى أقصى درجاتها، باستثناء حرية "الشتم" و"السب" و"القذف" ضد كل معارضي النظام. أما حرية الصحفيين أنفسهم فسجلت أكبر الانتهاكات ضدهم، لم يسبق لها مثيل في تاريخ الصحافة المصرية والعربية.
ففي تقريرها السنوي الصادر نهاية 2015 أعلنت "لجنة حماية الصحافيين" التي يوجد مقرها في نيويورك، أن مصر تأتي بعد الصين في تصدّر قائمة الدول التي تحبس الصحفيين.
وحسب نفس التقرير، فإنه كان يوجد في سجون مصر حتى نهاية العام الماضي 18 صحفيا مصريا معتقلون لأسباب مرتبطة بعملهم الصحفي، وأغلبهم مدانون بأحكام ثقيلة تصل عشرات السنين.
ويعد هذا الرقم بالإضافة إلى عشرات النشطاء المعتقلين، الأكبر في تاريخ مصر، منذ أن بدأ النظام الانقلابي باستخدام ذرائع مثل حماية الأمن القومي ومحاربة الإرهاب للتضييق على حرية الصحافة وحرية التعبير بصفة عامة.
هذا الهجوم الكاسح من طرف النظام على الصحافة يمكن تفسيره بأمرين: الأمر الأول هو أنه جزء من مناخ عام يطبعه القمع والاستبداد تعيش فيه مصر منذ الانقلاب على أول سلطة ديمقراطية وشرعية في البلاد. والأمر الثاني، يتعلق بسعي النظام في مصر إلى إسكات كل الأصوات المنتقدة بل وحتى المستقلة، لإرهاب وتخويف الناس من التحدث أو فقط الاقتراب من المواضيع الحساسة.
لذلك فإن الهجوم على نقابة الصحافيين، يكتسي أبعادا خطيرة لأنه يستهدف كل ما ترمز إليه الصحافة المصرية ومبنى نقابة الصحافيين في القاهرة. فالصحافة المصرية ظلت منذ وجودها تشكل "مؤسسة" متمردة تستعصي على الاحتواء الكامل، لأنها تظم داخل جسمها أصواتا كثيرة حرة قادرة على النقد ومستعدة للتضحية حتى لو كلفها ذلك حريتها أو حياتها.
أما مقر نقابة الصحفيين في قلب القاهرة فأضحى أحد المعالم التاريخية والحضارية لهذا البلد بمواقف نسائه ورجاله. وكلنا يتذكر أنه حتى في فترة قانون الطوارئ في مصر في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، عندما كان التظاهر محظورا بصفة تامة، كان الاستثناء الوحيد من هذا القانون الجائر هو سلم بناية النقابة الذي تظاهر أمامه أعضاء حركة "كفاية"، وشباب "حركة 6 أبريل"، وانطلقت من أمامه أول مسيرة لاحتلال "ميدان التحرير" في عام الثورة التي أسقطت نظام مبارك.
عندما يستهدف نظام الانقلاب هذا المبنى بكل ما يرمز إليه، فهو يريد أن يجهز على آخر مؤسسة مصرية ما زالت تحتضن أصواتا حرة تأبى الخضوع لإرادته. لقد نجح النظام في احتواء القضاء وتمريغ هامته في الأرض، وتدجين العديد من القضاة، لكنه، نسي ما هو أهم.. نسي إخراس "الشاهد". فالصحافة هي "شاهد العصر" الذي يصعب التخلص منه.
يعلمنا علم الإجرام أنه لا وجود لجريمة مكتملة. والجرائم التي ظلت غامضة هي تلك التي نجح منفذوها في التخلص من الشهود. جريمة النظام المصري اليوم مكشوفة والشهود بالآلاف يصرخون بصوت واحد "ارفع راسك فوق.. أنت صحفي".
مواضيع ومقالات مشابهة