من التاريخ المخفي للثورة المصرية لـ فهمي هويدي
في حالة الثورة المصرية ما عدنا مطالبين بالدفاع عن الحلم وحده، ولكننا بتنا مدعوين للدفاع عن الذاكرة أيضاً، لأن الحملة المعلنة التي استهدفت تشويه الثوار سبقتها حملة أخرى صامتة لطمس وقائع الثورة ذاتها.
(1)
أتحدث عن العبث الذي تعرضت له أحداث الـ18 يوماً، التي استغرقتها الثورة المصرية لإسقاط نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، وهي الأحداث التي صار لها تاريخان، أحدهما كتبه القانونيون والمحققون، والثاني كتبه مخبرو وضباط أمن الدولة. والأول الذي أشرت إليه من قبل أكثر من مرة، جرى طمسه وتجاهله. أما الثاني فقد تم اعتماده وتعميمه وتوظيفه سياسياً وإعلامياً إلى أبعد مدى.
لحسن حظنا أن قراراً كان قد صدر يوم 10 فبراير 2011 بتشكيل لجنة لتقصي حقائق أحداث الثورة.
وقد أنيطت المهمة بفريق من كبار القانونيين والخبراء مشهود له بالنزاهة والثقة، على رأسه المستشار عادل قورة الرئيس الأسبق لمحكمة النقض.
لأن الأحداث كانت طازجة فإن الفريق الذي استعان بآخرين من المحققين والخبراء أنجز مهمته في نحو 55 يوماً، وقدم في 19 أبريل من العام ذاته تقريره الذي جاء في 400 صفحة إلى السلطة القائمة في ذلك الوقت. وفي مؤتمر صحافي أذاعت اللجنة خلاصة التقرير وردت في 45 صفحة. وقد وجدت أن حلول الذكرى الثالثة لانطلاق الثورة مناسبة لاستعادة نماذج من مضمونه الذي جرى تجاهله وطمسه.
(2)
بعدما أعيد تركيب أحداث التاريخ في ضوء التقارير الأمنية تمت تبرئة الشرطة من جرائم قتل المتظاهرين، في حين أن تقرير تقصي الحقائق وجه إلى الشرطة إدانة صريحة، وحملها المسؤولية عن كل الجرائم التي وقعت، فنص على أنه:
÷ تبين للجنة أن رجال الشرطة أطلقوا أعيرة مطاطية وخرطوشاً وذخيرة حية في مواجهة المتظاهرين أو بالقنص من أسطح المباني المطلة على «ميدان التحرير». وقد دل على ذلك أقوال من سألوا في اللجنة ومن مطالعة التقارير الطبية التي أفادت بأن الوفاة جاءت غالباً من أعيرة نارية وطلقات خرطوش في الرأس والرقبة والصدر، علماً أن إطلاق الأعيرة النارية لا يكون إلا بموجب إذن صادر من لجنة برئاسة وزير الداخلية وكبار ضباط وزارة الداخلية، يسلسل ــ بالتدرج الرئاسي إلى رجال الشرطة الذين يقومون بتنفيذه.
وقد دل على أن الشرطة استعملت القوة المفرطة في مواجهة المتظاهرين ما يلي:
ــ إن أكثر الإصابات القاتلة جاءت في الرأس والصدر بما يدل أن بعضها تم بالتصويب وبالقنص، فإن لم تقتل الضحايا فقد شوهت الوجه وأتلفت العيون.
ــ أصابت الطلقات النارية والخرطوش التي أطلقتها الشرطة اشخاصاً كانوا يتابعون الأحداث من شرفات ونوافذ منازلهم المواجهة لأقسام الشرطة. وغالباً كان ذلك بسبب إطلاق النار عشوائياً أو لمنعهم من تصوير ما يحدث من اعتداءات على الأشخاص.
ــ سحقت سيارات الشرطة المصفحة عمداً بعض المتظاهرين.
(3)
موقعة «الجمل» التي تمت تبرئة المتهمين فيها أيضاً صوّرها تقرير اللجنة على النحو التالي:
÷ في صباح الأربعاء 2 فبراير تجمعت أعداد من مؤيدي النظام السابق في «ميدان مصطفى محمود» في شارع الجامعة العربية، وذلك بناء على توجيهات من بعض قادة الحزب الوطني، كما تجمع آخرون، من مؤيدي الرئيس السابق، الذين توافدوا من بعض أحياء القاهرة، وتمركزوا في الشوارع المؤدية إلى «ميدان التحرير» بهدف منع المتظاهرين المناهضين للنظام من الوصول إليه ومحاصرة المتظاهرين داخله، بينما اندسَّ بعض مؤيدي النظام من الشرطة السرية بين المتظاهرين داخل الميدان، واعتلت طائفة أسطح المنازل المطلة عليه. وفي منتصف اليوم بدأت أعداد غفيرة منهم في اقتحام الميدان خاصة من ناحية «ميدان عبدالمنعم رياض» و«كوبري 6 أكتوبر» ومن شارع طلعت حرب، وألقوا الحجارة وقطع الرخام وزجاجات حارقة (المولوتوف) على المتظاهرين، وفى ذات الوقت أطلقت الشرطة الأعيرة النارية والمطاطية والخرطوش والقنابل المسيلة للدموع على المتظاهرين وقام بعض القناصة بإطلاق الأعيرة النارية من أعلى الأبنية المطلة على الميدان، وبعدها هجمت على الميدان مجموعة من الرجال يركبون الجياد والجمال ومعهم العصي وقطع الحديد، التي حضرت معظمها من منطقة نزلة السمان، واجتمعت في «ميدان مصطفى محمود».
÷ تمكن المتظاهرون من التحفظ على بعض راكبي الجمال ومن المندسين بينهم من مؤيدي النظام السابق وتبين من الاطلاع على هوياتهم الشخصية أنهم من رجال الشرطة بالزي المدني ومن المنتمين للحزب الوطني، وتم تسليمهم للقوات المسلحة لاتخاذ الإجراءات القانونية حيالهم. وقد خاطبت اللجنة القوات المسلحة للاستعلام عن هوياتهم وعن الإجراءات التي اتخذت قبلهم، ولم تستقبل اللجنة رداً.
÷ سمعت اللجنة عدداً من الشهود يكفي للقول إن بعضاً من رموز الحزب الوطني وأعضاء مجلس الشعب والشورى المنتمين للحزب وبعض رجال الشرطة ــ خاصة من المباحث الجنائية ــ وبعض رجال الإدارة المحلية قد دبروا للتظاهرات المؤيدة للرئيس السابق في 2/2/2011.
(4)
في تحقيق الانفلات الأمني الذي حدث أثناء الثورة، ذكر تقرير اللجنة ان ذلك حدث نتيجة إطلاق البلطجية على المتظاهرين لإخراجهم من «ميدان التحرير» ومن ثم انتشارهم في أنحاء القاهرة والجيزة لإشاعة الفوضى بعد انسحاب الشرطة الذي كان متعمدا. ولأن اللجنة أدركت أنه أسهم في ذلك خروج أو هروب بعض المسجونين من الليمانات والسجون المتاخمة للقاهرة، فإن فريق الأمانة العامة المتفرع عنها زار السجون التالية: منطقة سجون وادي النظرون ــ منطقة سجون طرة ــ منطقة سجون أبوزعبل ــ سجن المرج ــ سجن القطا الجديدة. وخلصت اللجنة من زياراتها إلى احتمال تصورين هما:
>> تصور ارتأى أن ذلك يدخل في نطاق ما حدث في انهيار في أداء الشرطة في القطاعات كافة. ورغبة البعض في ترويع المواطنين. وهو يستند إلى الدلالات التالية.
ــ ظهر في أحد أشرطة الفيديو ــ التي اطلعت عليها اللجنة ــ مجموعة من الأشخاص يرتدون زياً أسود اللون متشابه الشكل يماثل الزي الذي يرتديه أفراد الأمن المركزي، ويقومون بفتح غرف السجن التابع لأحد مراكز مديرية أمن الفيوم ويطلبون من نزلاء تلك الغرف سرعة الخروج والعودة إلى منازلهم.
ــ مشاهد شريط فيديو آخر يظهر فيه المساجين ــ الهاربين من أحد سجون وادي النطرون ويحملون أغراضهم الشخصية في وجود أفراد من قوات الأمن المتمركزين بالزي الرسمي يحثون المساجين على سرعة الخروج من السجن.
ــ شهادة عدد من المساجين في سجن وادي النطرون وسجن طرة من أن إدارة السجن قطعت المياه والكهرباء عنهم قبل تمرد المساجين بعدة أيام، وهو ما يؤدي ــ بطبيعة الحال ــ إلى هياجهم وتذمرهم، ويعطي المبرر الكافي لاصطناع الاضطراب، المقاومة الظاهرية ثم الانقلاب الأمني.
ــ قرر بعض المساجين ــ في سجون لم يهرب منها أحد ــ أن الشرطة أطلقت الأعيرة النارية والخرطوشية في اتجاه العنابر والزنازين، بالرغم من عدم وجود تمرد، وأن عدداً من المساجين قتلوا أو أصيبوا أثناء وجودهم داخلها.
ــ قرر العميد عصام القوصي وسائر رجال الشرطة القائمين على إدارة سجن وادي النطرون أنه في يوم 29/1/2011 حدث تمرد داخل السجن واكبه هجوم عدد من الأشخاص المسلحين على السجن. وأن الحراسة المعينة على الأبراج بادلوهم إطلاق الأعيرة النارية حتى نفدت الأخيرة، غير أنه بمعاينة سور السجن تبين عدم وجود أي آثار لطلقات نارية على السور أو الأبراج، ما يدل على عدم صحة ما قرره رجال الشرطة المشار إليهم.
ــ ثبت من المعاينة بسجن وادي النطرون أن أعمال التخريب ونزع الأقفال ونشر حديد الهوايات بالغرف يستغرق وقتاً أطول كثيراً مما قرره ضباط السجن.
ــ قالت الدكتورة منال البطران إن شقيقها المرحوم اللواء محمد البطران حادثها تليفونياً قبل مقتله وقال إن «وزير الخارجية وقتذاك حبيب العادلي أحرق البلد وأن هناك ثمانية عشر قسم شرطة تم فتحها وخرج منها المساجين وإن تكرر الأمر في السجون فستكون كارثة، وأنه لن يسمح بذلك».
ــ إن السجون التي خرج منها المسجونون هي السجون المتاخمة للقاهرة والتي بها عتاة المجرمين بما يشير إلى أن ذلك تم عن قصد ليثيروا الذعر والفزع لدى المواطنين في العاصمة وما حولها، ضمن خطة الفراغ الأمني.
÷ ذهب أصحاب التصور الثاني إلى أنه تم تهريب المساجين بعد اعتداءات مسلحة على السجون واستندوا في ذلك على الدلائل الآتية: ــ ثبت بمعاينة منطقة سجون أبوزعبل (تضم أربعة سجون) تعرضها لهجوم خارجي مسلح تظهر آثاره واضحة في الأعيرة النارية المطلقة على بوابة السجن الرئيسية وعلى السور الشرقي المجاور لسجني أبوزعبل 1 و2، كما تظهر على هذا السور وجود آثار لإطلاق أعيرة ثقيلة.
ــ ثبت أن سجون أبوزعبل يضم المحكوم عليهم بأحكام جنائية من أهالي منطقة شمال وجنوب سيناء. كما ثبت وجود خمسة مسجونين من حركة حماس في سجن «أبوزعبل واحد»، إضافة إلى 24 آخرين من ذات الحركة ومن خلية «حزب الله» بالسجون التي تم اقتحامها والذين أظهرت وسائل الإعلام سرعة وصولهم إلى ديارهم خارج البلاد بعد الهرب بساعات قليلة، بما يؤكد التخطيط لتهريبهم عن طريق الهجمات الخارجية على السجون.
ــ ثبت بأقوال ضابط القوات المسلحة المكلف بتأمين سجن القطا أن السجن تعرض لهجوم خارجي وتعاملت معه القوات المسلحة ونجحت في صده كما شهد ثلاثة من أصحاب المزارع المجاورة للسجن أنهم نجحوا في رد مجموعات مسلحة حاولت التوجه للسجن واقتحامه لتهريب أبنائهم المسجونين.
ــ في ختام تحقيق هذا الشق ذكر تقرير اللجنة أنه يجب التوقف عند منطقة سجون وادي النطرون. الآثار التي رصدتها اللجنة عند المعاينة لا تنم عن حدوث اعتداء تعجز أمامه الشرطة عن المواجهة ومن ثم لا يوجد مبرر قوي لحدوث الانفلات وهروب السجناء من سجون وادي النطرون.
ثمة كلام آخر كثير لا يقل أهمية في التقرير يقدم قراءة مغايرة لبقية أحداث تلك الفترة. إلا أنني قصدت أن أعرض لما أورده بخصوص مسؤولية الشرطة عن قتل المتظاهرين، وما جرى في موقعة الجمل، ثم قصة الهروب من السجون، خصوصاً سجن وادي النطرون، الذي نسجت من حوله قصة مغايرة تماماً، لأن المعلومات المذكورة كاشفة لمدى الجرأة التي مورست في قلب الحقائق، وإعادة تركيبها لكي تناسب أهواء السياسة وتقلباتها.
مواضيع ومقالات مشابهة