للنشر اتصلوا بنا على الاميل التالي: yahayamin1@gmail.com '
.

بـانورامـا

حقوق الانسان و الحريات

اخبار اجتماعية

"البوركيني" اختراع أوروبي / علي أنوزلا




انشغلت فرنسا، طوال هذا الصيف، بقضية "البوركيني"، أي لباس السباحة الذي تختاره بعض النساء المسلمات في الشواطئ والمسابح العمومية. والقضية ليست جديدة في فرنسا، فقد أثيرت، في السنوات الماضية، عندما منعت إدارات بعض المسابح العمومية المسلمات من ارتداء هذا النوع من اللباس. لكن دائرة المنع اتسعت هذا الصيف ووصلت إلى شواطئ البحر، وأصدر رؤساء بلديات مدن ساحلية فرنسية قرارات بمنع ارتداء "البوركيني" على شاطئ البحر. وتحولت القضية إلى موضوع ساخن على وسائل الإعلام الفرنسية، وعند السياسيين الفرنسيين الذين يستعدون للانتخابات الرئاسية في العام المقبل، وقسمت الرأي العام الفرنسي بين مؤيد ومعارض.

وزادت من تأجيج هذا النقاش الهجمات الإرهابية التي شنها أشخاصٌ يدّعون أنهم إسلاميون، أو تبنتها جماعاتٌ تحسب نفسها على الإسلام، وهو ما جعل تيارات سياسية من اليسار، كما من اليمين، تتخذ من موضوع البوركيني "حصان طروادة" في سباقها السياسي نحو الانتخابات الرئاسية. أما الإعلام الفرنسي فاغتنم الفرصة في هجومه على "البوركيني"، بدعوى الدفاع عن قيم العلمانية الفرنسية ومبادئها. ولم يبق الموضوع محصورا على نقاشات السياسيين، أو في وسائل الإعلام، خصوصاً في فترة الصيف التي تقل فيها المواضيع الساخنة لإثارة فضول الجمهور، ومعها تتدنى أيضا نسب القراءة والمتابعة، وإنما وصل الموضوع إلى القضاء الفرنسي، بعد تأييد محكمة إدارية فرنسية قرار الحظر، ومساندة الحكومة المدن التي اتخذت هذا الإجراء، وإعلان جمعيات إسلامية عزمها رفع القضية إلى المحكمة العليا في باريس، خصوصاً بعد أن انتقلت قرارات المنع إلى إجراءات زجرية، تقوم بتغريم الحالات التي تخرق قانون الحظر، وبعد اعتداء على مسلمين من رواد الشواطئ، كما حصل في أحد شواطئ جزيرة كورسيكا، عندما اعتدى شباب فرنسيون على أسر مغاربية كانت تستخدم الشاطئ نفسه. 
وقد وجد المعتدون في قرار بلديتهم ما يبرّر اعتداءهم، كما وجد مؤيدو قرارات الحظر ما يدعم حججهم. فهؤلاء يدّعون أن من شأن لباس السباحة الذي تختاره بعض النساء المسلمات أن "يهدّد التعايش في الفضاء العام"، ويعدّ "علامةً على التشدّد الإسلامي"، ويعتبرون أن حظره "سيحدّ من التوتر، ويحافظ على القيم العلمانية الفرنسية"! 

وبدلاً من أن تتخذ الحكومة الفرنسية موقفاً محايداً من هذا الموضوع والنقاش الذي أثاره، تبنت موقف مؤيدي الحظر. وقالت وزيرة حقوق النساء، لورنس روسينيول، "إن البوركيني لديه معنى، هو إخفاء جسد المرأة"، معتبرة أنه "ليس مجرّد لباس، بل هو مشروع مجتمعي"(!). 

أما الجمعيات الإسلامية وأبناء الجاليات من أصول عربية وإسلامية في فرنسا وأوروبا، بما أن حملات المنع انتقلت إلى إيطاليا، فلا يرون في الموضوع سوى حملة عنصرية ضد العرب، والمسلمين بصفة عامة، استغلت الهجمات الإرهابية التي ضربت، أخيراً، أكثر من بلد أوروبي لتصعيد عدائها للإسلام والمسلمين في أوروبا، خصوصاً إذا علمنا أن حالات ارتداء "البوركيني" في المسابح والشواطئ العمومية تكاد تعد على الأصابع، وهي، في أغلبها، حالات منفردة تنطلق من قناعاتٍ شخصية، حتى وإن كانت تحمل معها قناعاتٍ "إيديولوجية"، حتى لا أقول دينية، لأنه ليس في الدين ما يسمى "المايو الشرعي" كما يحاول بعضهم، عن جهل، أن يطلق ذلك على "البوركيني"، وهي كلمة من صنع الإعلام، لا مرجع لها، لا في اللغة ولا في الدين. 
كشفت هذه القضية عن نفاق من يتبنون موقف الحظر بدعوى الدفاع عن "حرية المرأة"، والحفاظ على مبادئ "العلمانية" وقيمها، كما أبانت عن جهلهم بتاريخ بلادهم القريب والثقافة التي كانت سائدة فيها حتى بداية القرن الماضي فقط، فالدفاع عن حرية المرأة يجب أن ينطلق من مبدأ أن تُعطى للمرأة حرية اختيار لباسها بنفسها، ولا أحد يعتقد أن اللواتي يفضلن ارتداء هذا النوع من لباس السباحة يفعلن ذلك غصباً عنهن. وحتى إذا ما كانت بعض النساء يفعلن ذلك انطلاقا من اعتقادهن، فهذا يبقى أيضا من حقهن، وأحد أهم المبادئ التي تقوم عليها العلمانية هي احترام حرية المعتقد. وبالعودة إلى التاريخ القريب في أوروبا، يجد المطلع عليه أن النساء الأوروبيات، وحتى سنوات العشرينيات من القرن الماضي، كن يسبحن بلباس يشبه "البوركيني"، وكان الرجال يسبحون هم الآخرون بقمصان تغطي صدورهم، وسراويل تتدلى حتى الركبتين.

وفي أميركا، كانت النساء تسبحن في عربات (تسمى Bathing Machine) تسير على عجلتين، يتم دفعها أو جرها حتى تغمرها المياه، وتقوم النساء بداخلها بالسباحة، بعيدا عن أعين المتطفلين، أو كن يرتدين قمصاناً فضفاضة، لا تظهر سوى رأس المرأة الطافي فوق المياه. الحجة من هذا، أن اللباس، سواء تعلق الأمر بلباس السباحة أو اللباس العادي، هو نتيجة ثقافة المجتمعات، يتطور مع تطورها، ويتغير مع التغيرات التي تلحق بعادات أهلها، ولا علاقة له لا بالدين ولا بالإيديولوجيا. وكل من يحاول أن يسخّره لخدمة الدين، أو لأغراض سياسية، لا يعرف الدين، ويجهل مقاصد تعليماته، وسرعان ما ستُفضح أهدافه السياسية، عندما تكشف عن دناءتها.

علي انوزلا

مواضيع ومقالات مشابهة

/* ------------------------------ اضافة تعليقات الزوار من الفيس بوك ------------------------------ */
Organic Themes