قراءة في مشروع قانون الصحافة المغربي لـ علي انوزلا
لم تكن مجرد صدفة أن تصادق الحكومة المغربية، في نفس اليوم من ديسمبر عام 2015، على "مدونة الصحافة والنشر"، وعلى مشروع قانون يسعى إلى تغيير بعض فصول القانون الجنائي المتعلق بـ"الأعمال الصحفية" التي سيتم التعامل معها قانونيا كجرائم حق عام.
هذا التزامن في التوقيت في المصادقة على مشروع القانونين، هو الذي سيفسر فيما بعد لماذا يتوجس المهنيون في المغرب من مشروع "قانون الصحافة" الجديد.
لكن قبل ذلك كان مجلس النواب (الغرفة الأولى داخل البرلمان المغربي) قد صادق على مشروع قانون يتعلق بالنظام الأساسي للصحفيين المهنيين، ومشروع قانون لإحداث "المجلس الوطني للصحافة".
ولاستيعاب ما تخطط له السلطة في المغرب يجب وضع كل هذه الترسانة القانونية تحت المجهر لفهم مراميها، لأن مشاريع القوانين الأربعة تتقاطع فيما بينها، وتكمل بعضها البعض في التضييق على حرية الصحافة في المغرب.
فالعقوبات الحبسية التي أسقطت من مشروع قانون الصحافة تم استنساخها في مشروع القانون الجنائي، بل وتم تشديدها على ما هي عليه في قانون الصحافة الجاري به العمل حاليا.
كما أن الكثير من التدابير العقابية غير الموجودة في قانون الصحافة الحالي، أقرها القانون التنظيمي الجديد الخاص بـ"المجلس الوطني للصحافة"، كانت من بينها عقوبات تصل إلى حد "المنع من مزاولة المهنة لمدة عشر سنوات كاملة"، قبل إسقاطها من النسخة النهائية التي صادق عليها البرلمان، لكن نفس القانون ما زال يحفل بالعديد من العقوبات الزجرية التي تقيد الممارسة الصحفية من قبيل سحب البطاقة المهنية وبطاقة الاعتماد الصحفي.
إصلاح تأخر 23 عاما
الإصلاح الحالي الذي تعد به الحكومة في آخر ربع ساعة من ولايتها، تأخر طويلا، فهو يأتي بعد مرور 23 سنة، منذ أن نظمت أول مناظرة وطنية في المغرب لإصلاح الإعلام عام 1993 أوصت بضرورة إصلاح قطاع الإعلام القوانين المنظمة له في المغرب.
حدث ذلك في فترة كان الملك الراحل الحسن الثاني يهيء فيها لانفتاح سلس عقب سقوط جدار برلين عام 1989، بدأه بإطلاق أو قناة خاصة في المغرب، وربما في العالم العربي بعد لبنان، (وهي قناة "2M" التي أصبحت عمومية في عهد الملك الحالي)، ومنذ ذلك التاريخ وكل الحكومات التي تعاقبت على تداول السلطة التنفيذية في المغرب، وهي تعد بالإصلاح الذي لم يتحقق حتى اليوم باستثناء تعديل طفيف أدخل على قانون الصحافة عام 2002.
هذا التماطل والتسويف في الإصلاح جعل من غياب التشريع في المغرب، طيلة السنوات الماضية، سياسة تشريعية بحد ذاتها، وهي "سياسة تشريعية مضادة"، كما يصفها محمد المدني، أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، الذي يعتبر بأن هذا "العجز في التشريع"، أدى إلى "ضياع سنوات كثيرة مع ما خلفه ذلك من أضرار عديدة".
هِبة "الربيع العربي"
وما بين 1993 و2016، ستجري مياه كثيرة تحت الجسر، ورغم كل الأحداث التي شهدها المغرب لم تؤد إلى التحرك من أجل إصلاح قانون الصحافة، حتى جاءت رياح "الربيع العربي" التي هزت المنطقة، وتأثر بها المغرب الذي دخل منطقة اضطرابات فرضت عليه بعض الإصلاحات للنجاة بسفينته.
لكن مع هدوء العاصفة، بدأت السلطة في المغرب تتنصل تباعا من وعودها الإصلاحية، وأسقط الأمر في يد الحكومة ووزيرها في الاتصال الذي وعد بإصلاحات كبيرة في قطاع الإعلام عشية تنصيب الحكومة التي جاء بها الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب عام 2011.
وبعد أربع سنوات تخللتها نكسات في مجال إصلاح قطاع التلفزيون الرسمي، جاءت هذه النسخة من مشروع قانون الصحافة مثل "هِبة" متأخرة مما حملته لنا رياح "الربيع العربي"، لكنها هِبة ناقصة إن لم نقل "هبة" تحمل في طياتها أكثر من نقمة.
ملامح المشروع الجديد
مشروع قانون الصحافة الجديد كما يقول صاحبه، أي مصطفى الخلفي، وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة، حرص على أن لا يتضمن أي عقوبة سالبة للحرية، بخلاف القانون الحالي الذي وردت فيه عبارتا "سجن" أو "الحبس" 24 مرة وفي 21 فصلا، وهو ما يعتبره الوزير "تحولا جوهريا وإيجابيا في إطار تعزيز الحريات، وتقدما جوهريا في سبيل إرساء حرية الصحافة".
وبالفعل فمشروع القانون الجديد حمل بعض الإيجابيات، مثل إلغاء بعض العقوبات السالبة للحرية وتعويضها بغرامات مالية، واحترام قرينة البراءة، والأخذ بحسن النية عند تقدير التعويض على الضرر في قضايا القذف والسب، وإقرار ضمانات الحق في الحصول على المعلومة مع النص على الجزاء في حالة الرفض غير الموضوعي.
أيضا حمل المشروع الجديد، مشاريع نصوص تمنع التحريض على الكراهية والتمييز والعنف، وأخرى تحمي الحياة الخاصة والحق في الصورة، كما تم إقرار الحماية القضائية لسرية المصادر، حيث تم التنصيص على سرية مصادر الصحفيين في إطار احترام مقتضيات الدستور والقوانين الجاري بها العمل، وحدد المشروع شروط الكشف عن المصادر بقرار قضائي، وفي الحالات التي تخص الدفاع الوطني وأمن الدولة الداخلي والخارجي، وكذا الحياة الخاصة للأفراد ما لم تكن لها علاقة مباشرة بالحياة العامة.
كما نص المشروع على مبدأ الحق في الحصول على المعلومة والعقاب لكل من يقف بطرقة غير موضوعية ضد هذا الحق، إضافة إلى تنصيصه على توفير ضمانات قانونية ومؤسساتية لضمان حماية الصحفيين من الاعتداءات أثناء أداءهم مهماتهم.
قانون للضبط
وبعيدا عن الصورة الوردية التي يحاول الوزير أن يضع داخل إطارها مشروع قانونه الجديد، إلا أن المتصفح له سيخرج بانطباع أولي، ألا وهو هاجس الضبط الذي طغى على معديه، والضبط هنا ليس بمعنى التقنين، وإنما بمعنى التحكم والسيطرة.
فالحرية كقيمة جوهرية، لا يمكن لأي إعلام حر ومستقل أن يرى النور بدونها، تم اختصارها في مشروع القانون الجديد في ديباجته، وكأنها شيء ثانوي يستعمل للزينة والزخرفة فقط، من خلال الإحالة على مرجعيات هذا المشروع.
وكما هو معروف فلا تكفي الإحالة على مرجعيات كونية حتى يعتبر القانون -أي قانون- بأنه يتوافق مع تلك المرجعيات.
ولو اقتصرنا فقط على المرجعية المحلية التي يستند إليها المشروع، آلا وهي الدستور المغربي لعام 2011، سنجد أن النص الدستوري يؤكد في الفصل 28 على أن "حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة، للجميع الحق في التعبير ونشر الأخبار والأفكار والآراء، بكل حرية ومن غير قيد، عدا ما ينصُّ عليه القانون صراحة...".
وفي الفصل 27 ينص على أن "للمواطنات والمواطنين حقَّ الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية والمؤسسات المنتخبة، والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام، لا يمكن تقييد الحقِّ في المعلومة إلا بمقتضى القانون، بهدف حماية كل ما يتعلَّق بالدفاع الوطني، وحماية أمن الدولة الداخلي والخارجي، والحياة الخاصة للأفراد، وكذا الوقاية من المس بالحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور، وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها القانون بدقة".
إن المشكل كما يقال دائما في المغرب لا يكمن في النصوص، وإنما في أسلوب كتابتها وطريقة تنفيذها، فبالرغم من أن الدستور، وهو أعلى قانون في البلاد، أكد على حرية الصحافة وعدم تقييدها بأي شكل من الأشكال، ونص على حق المواطنين في النفاذ إلى المعلومة، إلا أنه قيد هذه الحرية وهذا الحق بالقوانين التنظيمية، وهو ما يجعل من هذه القوانين كوابح لـ "نوايا" الدستور الجميلة، لدرجة أصبح معها بعض خبراء القانون الدستور المغربي يعتبرون هذه القوانين أسمى من الدستور نفسه، لأنها هي التي "تفسره" وتعطيه معناه على أرض الواقع.
وإذا كانت القوانين في كل بلاد العالم المتقدم تسن عادة من أجل تنظيم الحرية، فإن مشروع القانون المغربي الذي نحن بصدد مناقشته جاء لتقييد هذه الحرية، وكل ما فعله معدوه هو أنهم اجتهدوا كثيرا في التفنن في تقنين أساليب الرقابة، فهو يكاد لا يختلف عن القانون الحالي من حيث الفلسفة التي حكمته، والتي تقوم على الضبط والعقاب.
وحتى الوزير الخلفي الذي يٌنسب إليه هذا القانون، كلما أراد الدفاع عنه يسبقه اللامفكر فيه الذي كان هاجسه، أو هاجس من صاغ المشروع معه، ألا وهو الضبط والتقييد، عندما يتحدث عن كون المشروع قلص من العقوبات السالبة للحرية أو خفف من بعضها أو استبدل بعضها.
فالمشروع الحالي -عكس ما يقول عنه الوزير- سن وشدد العقوبات السالبة للحريات من سجن للصحفيين، ومصادرة للمنشورات، ومتابعات بالغرامات، وما سوى ذلك، لدرجة يبدو معها أن هاجس المشرع كان هو تشديد المراقبة على الحرية الصحفية، وتقليص فضاء حرية الممارسة الصحفية.
وما يدفع أكثر إلى الشك بأن الهدف من هذا المشروع هو مزيد من الضبط وليس التقنين، هو إغفاله كل حديث عن تحرير الإعلام العمومي، في بلد ما زالت لا توجد فيه تلفزة مستقلة واحدة، بل إننا أمام مشروع قانون للصحافة، أقرب ما يكون إلى "قانون جنائي خاص بالإعلاميين".
وهو ما يدفعنا إلى القول بأن الحرية التي يعد بها مشروع القانون الجديد هي "حرية مقيدة"، وهو ما لا يستقيم مع الممارسة الصحفية الحرة، فكما هو معروف فلا ديمقراطية بدون إعلام حر والإعلام الحر لا يمكن أن يوجد ويزدهر، إلا في ظل وجود حرية داخل فضاء ديمقراطي حقيقي.
المسكوت عنه في المشروع
عندما يقوم الوزير بتقديم مشروعه، فهو غالبا ما يركز على الجانب الإيجابي فيه ويسكت عن ما هو سيئ، والواقع هو أن الترويج الذي يقوم به الوزير لمشروعه فيه نوع من "التحايل"-حتى لا نقول الاحتيال- كما وصف ذلك بعض البرلمانيين أثناء مناقشتهم للمشروع.
ويقول الوزير إن مشروعه الجديد جاء خاليا من العقوبات الحبسية، رغم أنه قام بترحيل بعضها إلى القانون الجنائي، لكن الحقيقة هي أن المشروع الحالي نفسه مازال يتضمن عدة عقوبات حبسية. فهو يعاقب بالسجن من ستة أشهر إلى سنتين وغرامة من 20 ألفاً إلى 200 ألف درهم كل إهانة لعلم المملكة ورموزها، والإساءة إلى ثوابتها، ويعاقب بالسجن من سنتين إلى خمس سنوات وبغرامة من 50 ألفاً إلى 500 ألف درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا ارتكبت هذه "الإهانة" "بواسطة الخطب، أو الصياح، أو التهديدات، المتفوه بها في الأماكن العامة، أو بواسطة الملصقات المعروضة على أنظار العموم، أو بواسطة البيع، أو التوزيع، أو بواسطة كل وسيلة تحقق شرط العلنية، بما في ذلك الوسائل الإلكترونية والورقية والسمعية البصرية.
كما ينص المشروع نفسه على معاقبة مرتكبي جريمة التمييز والتحريض على الكراهية بواسطة الوسائل الإلكترونية أو الورقية بالحبس من سنة إلى 3 سنوات، وبالغرامة من 10 آلاف إلى 100 ألف درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
ويعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين، وبغرامة من 20 ألفا إلى 200 ألف درهم كل من ارتكب قذفاً أو سباً أو مساً بالحياة الخاصة للملك، أو لشخص ولي العهد، أو أخل بواجب التوقير والاحترام لشخص الملك، وهي العقوبات، التي تتضاعف إذا ما ارتكبت بواسطة الوسائل الإلكترونية والورقية والسمعية البصرية.
يضاف إلى هذا أن "إخفاء" بعض العقوبات السالبة للحرية من مشروع قانون الصحافة والنشر الجديد لم يغلق باب السجن في وجه الصحافيين، ما دام أن الغرامات المالية غير المناسبة تهدد الصحافيين بدخول السجن، في حال العجز عن أدائها.
عقوبات تم "تهريبها" إلى القانون الجنائي
وعلى الرغم من أنّ مشروع القانون، كما يدعي الوزير، جاء خاليا من العقوبات السالبة للحرية، إلا أن الصحافيين ما زالوا مهددين بالسجن، لأنه ترك المجال للقضاء للإحالة على القانون الجنائي، ما دام لم ينص صراحة على أن يكون قانون الصحافة هو القانون الوحيد الذي يحاكم به الصحفي.
وهكذا نجد أن بعض العقوبات السالبة للحرية المتعلقة بالنشر تم ترحيلها أو "تهريبها" إلى مشروع القانون الجنائي، وبعض العقوبات المنصوص عليها في مشروع قانون الصحافة تم تشديدها في مشروع القانون الجنائي، خاصة منها تلك المتعلقة بالجرائم التي توصف في المغرب بجرائم تجاوز "الخطوط الحمراء"، وعلى رأسها الملك.
فمشروع القانون الجنائي الجديد ينص في المادة 179 على عقوبة بالسجن من سنة إلى خمس سنوات، وغرامة من 5 آلاف (نحو 500 دولار أمريكي) إلى 50 ألف درهم (نحو 5000 دولار أمريكي)، لكل "من ارتكب إهانة موجهة إلى شخص الملك أو شخص ولي العهد"، وفي حال كانت الإهانة موجة إلى أعضاء الأسرة الملكية كما يحددها نفس القانون تكون العقوبة هي الحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامة من ألفين إلى 10 آلاف درهم، لكن القانون لم يحدد المقصود بمفهوم الإهانة.
عبارات فضفاضة
إن القوانين مهما تكن مثالية، إذا لم تكن هناك سلطة نزيهة تشرف على تطبيقها، وقضاء مستقل يضمن عدالتها، تبقى مجرد نصوص جميلة نقرأها في الكتب، فنعجب بها قبل أن نصطدم بالواقع ليكشف لنا طوباويتها.
والواقع أن مشروع القانون الجديد يحفل بالعديد من العبارات الفضفاضة التي تسمح للقاضي بحرية التأويل، وبالتالي تجعل مفهوم العقوبة السالبة للحرية التي يقول الوزير بأنه قلصها في مشروعه الجديد، فاقدة لكل معنى بما أن العقوبات "الزجرية" من قبيل المنع والمصادرة والحجز والمنع من الكتابة، كلها عقوبات سالبة لحرية الممارسة، فالمنع من الممارسة هو بمثابة قتل معنوي للصحافي، وهو لا يقل خطورة عن سلب حريته.
إن المطلع على نص المشروع الجديد سيجد أن صياغته تمت بطريقة تفتقد إلى المهنية، وتضمنت عدة عبارات قابلة لكل تأويل، من قبيل "الإساءة للدين الإسلامي"، "الاحترام والتوقير الواجبين لشخص الملك وأصحاب السمو الملكي والأمراء والأميرات"، "التحريض على الوحدة الترابية"، "الإخلال بالنظام العام"، "إثارة الفزع بين الناس"، "التأثير على انضباط أو معنوية الجيوش"، "التعرض لشخص وكرامة رؤساء الدول والحكومات ووزراء الخارجية والممثلين الدبلوماسيين أو القنصليين المعتمدين بالبلاد"، "القذف في حق المجالس والهيئات القضائية، أو المحاكم، أو الجيوش أو الهيئات أو الإدارات العمومية، أو في حق وزير أو عدة وزراء من أجل مهامهم.
وفي كل هذه الحالات ترك المشروع للقاضي وحده حرية التقدير والتأويل..، وفي حالات أخرى مشابهة من قبيل عبارة: "ضرورة احتكام الإعلاميين إلى أخلاقيات المهنة"، أو "ترويج معلومة بمواصفات معينة"، فإن المشرع يفتح للقاضي باب الدخول والتحرك بحرية داخل قاعة التحرير، ليدس أنفه في الجانب المهني للعمل الصحفي.
وهذه الملاحظة الأخيرة، المرتبطة بالجانب المهني، لا تتوخى التقليل من أهمية وضرورة الالتزام الأخلاقي بقواعد المهنة وأدبياتها، لكن المفروض أن قواعد المهنة يجب أن تضبطها الهيئات المهنية، وليس تركها لتقدير وتأويل القاضي، وأغلب القضاة لا يفقهون في قواعد وأدبيات المهنة، فالصحافة قطاع لا يقل أهمية وحساسية عن قطاعات مهنية أخرى، إن لم يكن أخطر منها بكثير، مثل الطب والصيدلة والمحاماة..، وكل هذه المهن تنظم نفسها ذاتيا من خلال هيئاتها المهنية، وكذلك كان يجب التعامل مع الصحافة.
وتدفعنا هذه الملاحظة إلى ضرورة الربط بين الحرية والمهنية، أي الحرية المسؤولة التي يعرف من يمارسها كيف يزاوج بين ما هو حق له وما هو واجب عليه، وذلك من خلال الالتزام الواعي بأخلاقيات المهنة، على اعتبار أن حرية الإعلام هي "شأن عام"، وكل مس بها حتى من الصحافي الذي يمارسها قد يؤدي إلى تقويض البناء الديمقراطي الذي يقوم في جوهره على مبدأ الحرية.
عدة قوانين لنفس "الجرائم"
إن القراءة الموضوعية لهذا القانون لا تستقيم بدون استعراض باقي القوانين الأخرى التي تتقاطع معه، أي قانون الصحفي المهني وقانون "المجلس الوطني للصحافة المكتوبة" والقانون الجنائي.
ففي القوانين الأربعة نكاد نجد عقوبات مختلفة ومتفاوتة القسوة في معاقبة الصحفي على نفس الأفعال، لدرجة تدفع المراقب إلى التساؤل عن الهدف من وجود عقوبات مختلفة على نفس المخالفات في عدة قوانين؟ والتساؤل عن المعنى من وجود قوانين تعاقب الصحفيين على مخالفات منصوص عليها في قوانين أخرى موجودة؟
إن ما يخيف في تعدد القوانين المتضمنة لعقوبات تتعلق بالنشر هي أنها ستجعل الصحفي مهددا بعدة قوانين: قانون الصحافة، وقانون الصحفي المهني، وقانون "المجلس الوطني للصحافة"، والقانون الجنائي، وقانون الإرهاب، وربما غدا قانون الحصول على المعلومة وقانوني النشر الإلكتروني.
كل هذه الترسانة من القوانين تدفعنا إلى طرح الأسئلة التي ستبقى معلقة: ما الجدوى من قانون خاص بالصحافة؟ إذا كان الصحافي سيحاكم مثله مثل أي مواطن بقوانين أخرى المفروض أنها تسري عليه كما تسري على باقي المواطنين؟ ما قيمة وجود قانون في ظل عدم وجود قضاء مستقل يكفل احترامه ويضمن عدالته؟ وأخيرا ما الهدف من الإصلاح إذا لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية لتحقيقه؟
علي أنوزلا
مواضيع ومقالات مشابهة