محمد حسنين هيكل ما بين علياء النسر وقفص الببغاء لـ علي أنوزلا
عن عمر 93 سنة فارق الصحفي المصري المخضرم محمد حسنين هيكل الحياة تاركا وراءه إرثا صحفيا كبيرا ومسارا مهنيا مثيرا للجدل.
فـ "الأستاذ" كما يحلوا لأجيال من الصحفيين المصريين أن ينادوه، لم يكن صحفيا عاديا وإنما كان "مدرسة صحفية" قائمة بذاتها لها ما لها وعليها ما عليها. أما صاحبها فسيبقى واحدا من أبرز الصحفيين العرب والمصريين في القرن العشرين.
صحفي كان شاهدا على عصره ومؤثرا في الكثير من الأحداث التي عاشتها منطقته، ومساهما في صناعات قرارات كبيرة داخل بلاده.
عاش هيكل ومات مثيرا للجدل مالئ الدنيا وشاغل الناس، خلف وراءه محبين ومعجبين كثيرين، وخصوم ومنتقدين كثيرين. حمله قلمه أحيانا إلى مرتبة الأنبياء الأتقياء، وجلبت عليه كلماته أحيانا أخرى غضب وخصومة الأصدقاء قبل الأعداء.
لكن ما لا يجب أن ننساه أيضا هو أن هيكل كان صحفي السلطة بامتياز، وليس أي سلطة، وإنما سلطة مستبدة في عهد دكتاتور مصر جمال عبد الناصر، عرابه وسيد نعمته الأولى الذي فتح له أبواب بلاط صاحبة الجلالة عندما عينه رئيسا لتحرير جريدة "الأهرام"، ومهد أمامه بلاط السلطة بتعيينه في منصب وزير الإرشاد، أي الإعلام، في زمن كانت فيه وزارات الإعلام، ومازالت في الكثير من دول العالم المتخلف، مؤسسات رسمية للدعاية والتوجيه والرقابة وصناعة "البروباغندا" في أبشع صورها.
ومن خلال تجربته المخضرمة المليئة بالتناقضات حاول هيكل أن يجمع بين شرف المهنة وحلاوة القرب من السلطة، وعبر مساره الطويل والمتشعب في مهنة المتاعب لم يٌقيم أية مسافة بين المهنة والسلطة. فهو إما خادم للسلطة في بلاطها أو معارض لها في سجونها.
تماهى مع السلطة منذ بداية عهده بمهنة المتاعب في عهد جمال عبد الناصر، وعارضها في عهد محمد السادات، وهادنها في عهد حسني مبارك، ونافقها، إلى حد ما، في عهد محمد مرسي، وحاباها وتودد إليها في آخر أيام عمره في عهد عبد الفتاح السيسي..
عام 2003 كتب هيكل مقالة طويلة في جريدة "الأهرام" تحت عنوان "استئذان في الانصراف" ختمها بالقول بأنه قرر "الانسحاب بخطى ثابتة على الأرض لا نسرا في السماء ولا ببغاء في القفص.. "
وهذه العبارة تلخص إلى حد كبير المسار المهني المضطرب والمتناقض لهذا الصحفي الكبير الذي أراد أن يعيش حرا مثل نسر ومعززا مكرما مثل ببغاء.. لكنه كان كلما حلق عاليا في سماء مهنة المتاعب إلا وراوده الحنين إلى قفص السلطة التي منحته حظوته الأولى داخل بلاط صاحبة الجلالة.
عمليا، أعلن هيكل "انصرافه" من مهنة المتاعب عام 2003، لكن حضوره ظل قويا كشاهد على عصره المضطرب بالأحداث، فارضا صوته وروايته ورؤيته أكثر من أي صحفي أو سياسي عايشه طيلة مساره الصحفي الطويل.
لكن مهنة الشاهد والمدون التاريخي التي تقمصها هيكل في آخر سنوات عمره لم تقنعه فعاد محللا ومستشارا يقدم خدمته للسلطة التي ظل بريقها يجذبه حتى وهو في أرذل العمر. فالنسر الذي بداخله كان كلما حلق عاليا إلا وعاوده الحنين إلى القفص الذهبي للسلطة، لأن الأجنحة التي يحلق بها ما هي إلا أجنحة مستعارة.. إنها أجنحة السلطة التي كلما سقطت إلا وسقط معها صاحبها..
انتهى هيكل وهو مؤيد للرئيس المصري الحالي الذي امتدحه وذهب إلى حد تشبيهه بنموذجه ومثاله الأعلى الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر. وكما فعل في عهد عبد الناصر، صمت الشاهد الذي بداخله في عهد السيسي عن ما ارتكبه من انتهاكات لحقوق الإنسان وقبل ذلك عن اغتصابه للسلطة التي أنهى هيكل مساره وحياته داخل قفصها.
علي أنوزلامواضيع ومقالات مشابهة