كيف كوّن وراكم الحسن الثاني الثروة الملكية؟
هذا الأخير عرف تحولات مع مطلع الألفية الثانية بفعل انعكاسات التغيرات العالمية، وبالتالي فإن بعض الأحكام التي تتخلل الملف الذي نقترحه على القارئ مع بداية السنة الجديدة، قد تكون أحكاما عن فترة أقفلت آفاقها بسبب جملة من التطورات الخارجية، وبالتالي أضحت تعد ملمحا من ملامح التاريخ، لكن تداعياتها وبصماتها القوية مازالت حاضرة بقوة، وبعضها مازال يفعل فعله.. فقد ذهب الكثيرون إلى القول إن الملك الراحل الحسن الثاني كان يعتبر المغرب ملكه والاقتصاد المغربي قضيته وشأنه الخاصين، وقد سبق له أن صرح للتلفزة الدانماركية في 15 فبراير 1986 ما معناه " أنه لو كان من الممكن عبادة غير الله لأقمت معلمة أمامي لأعبد بلدي، لذلك لا يمكن السماح بأي وجه من الوجوه المساس ببلدي.."
فما هو هذا المغرب الذي يتم الحديث عنه من منظور اغتناء الملك الراحل الحسن الثاني والأسرة الملكية؟ وما هي الآليات المعتمدة لمراكمة هذه الثروة؟ وهل كانت نعمة أم نقمة على المغاربة؟
لقد أجمع الباحثون على أن الملك محمد الخامس لم يكن ثريا ولم يكن يولي الاهتمام لجمع أو مراكمة الثروة بل كان يكتفي بما يجعله يعيش مع عائلته عيشة كريمة.
وبعد عودته من المنفى كانت ثروة العائلة الملكية أقل بكثير من ثروة أغنياء المغرب. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى ما كشف عنه الصحفي "إيناس دال" في كتاباته، وهو الذي عمل خمس سنوات كمراسل للوكالة الفرنسية للأخبار (AFP) بالمغرب، وذلك بخصوص برقية لـ "أندريلويوس ديبوا" مؤرخة في 3 يناير 1956، جاء فيها أن السلطان محمد الخامس كان يرغب أن تقوم فرنسا بتعويضه بشكل مناسب عن 26 شهرا التي قضاها مضطرا رفقة أسرته في المنفى بكورسيكا ومدغشقر، وكان قد قدر ما صرفه بما يناهز 70 مليون فرنك فرنسي عندما كان بكورسيكا.
وفعلا وافقت فرنسا بسرعة فائقة على تخصيص ما قدره 600 مليون فرنك فرنسي كتعويض عن الأضرار، وفي 4 يناير 1956 أذن "آلان سافاري" بتحويل التعويض المذكور إلى حساب السلطان بالرباط.
الثروة الملكية بين محمد الخامس والحسن الثاني
حسب أغلب المؤرخين والمحللين الاقتصاديين، لم يكن الملك الراحل محمد الخامس ثريا جدا، عندما استعاد المغرب استقلاله سنة 1956.
في حين راكمت العائلة الملكية ثروات طائلة خلال عهد الحسن الثاني، إلا أنها ظلت محجوبة عن المغاربة، فلم يكن الفصل 168 من قانون المسطرة الجنائية ليشجع البحث والتقصي حول مصادر ثروة الملك والأسرة الملكية، ورغم أن المعارضة في عهد الحسن الثاني كانت تندد بالرشوة والفساد إلا أنها كانت تتجنب الحديث مباشرة عن الملك وأسرته.
تعددت وتنوعت مصادر الثروة الملكية بسرعة فائقة في الستينات، عبر الاستمرار في قطاع التجارة الخارجية ومشاركة الرأسمال الأجنبي، آنذاك بدأ يرسم بوضوح الخط الفاصل بين مغربين : مغرب الملك والأسرة الملكية والدوائر المحيطة بالبلاط من جهة، وهو مغرب الثروات والأرباح الطائلة، ومن جهة أخرى، مغرب الفقر الخاضع للقمع الدائم والمستمر، حيث ابتداءا من يوم 7 يونيو 1965 أعلن الملك الراحل الحسن الثاني عن حالة الاستثناء، وأضحى يتحكم في كل شيء إلى حدود سنة 1970.
منذ ذلك الحين أصبح الحسن الثاني الملاك العقاري والمقاول الأول وأكبر صاحب رأسمال بالمغرب، وذلك عبر شبكات متقاطعة من الشركات والأشخاص الذين كانوا يظهرون في الواجهة، فأهم الصناعات المغربية المنتجة لأكبر الأرباح، في المنظومة الاقتصادية المغربية، كانت منذ منتصف الثمانينات بحوزة الملك، وكذلك امتداداتها في الخارج.
فعلاوة على الثروة المتواجدة بالتراب الوطني (أراضي، عقارات، شركات، مصانع، أبناك، قصور، ضيعات ومساهمات..)، فإنه كان يتوفر على حسابات بنكية بسويسرا وأراضي وأملاك عقارية و"رانشات" بأوروبا وأمريكا والبرازيل.. وبعد وضع يده على جزء كبير من خيرات البلاد، عمل الملك الراحل الحسن الثاني على تنمية ثروته خارجها. وفي هذا الصدد اقتنى بمعية أحد وزراء الجنرال فرانكوا سابقا، 2000 هكتار من غابات البرازيل. كما كشف أكثر من مصدر علاقة الحسن الثاني المصلحية بجملة من كبريات الشركات الفرنسية، منها "سكوا" (SCOA) و"بويك " (BOUYGUES) و"صاف" (SAF) و"دوميز" (DUMEZ) و"نادي البحر الأبيض المتوسط" (Le Club Méditerranéen ).
أبناء الحسن الثاني وتركته المالية نزاع الأمراء والأميرات الذي فضه شيراك
حينما وجه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، دعوة للملك الحسن الثاني لحضور الاستعراض العسكري الفرنسي ليوم رابع عشر يوليوز، وهو امتياز نادر جدا من قادة فرنسا اتجاه نظرائهم عبر أنحاء المعمور، فقد كان واضحا أن الحسن الثاني كان يعرف أن أيامه الأخيرة معدودة في دنيا الحياة والأحياء، فقد كانت نظراته التائهة من أعلى المنصة الشرفية بساحة باب النصر بباريس بادية للعيان، كان يُفكر بدون شك بمصير أولاده من بعده، لذا فإنه بمجرد انتهاء الاحتفال الفخم المذكور اختلى بصديقه جاك وقال له هذه الكلمات بتأثر غير معهود عن الحسن الثاني: "اسمع يا صديقي العزيز، إن أجلي وشيك وإنني أترك لك أبنائي وأحفادي، أرجو أن تكون بمثابة ذلك الأب الذي لن أكونه".
يُمكن القول من خلال العديد من الوقائع التي تلت، إن جاك شيراك التزم بالوعد الذي قطعه مع الحسن الثاني، فقد سارع بمجرد نزوله بمطار الرباط وسلا، في اليوم الموالي لرحيل الحسن الثاني بتاريخ 23 يوليوز 1999، إلى الهمس في أذن محمد السادس: "إنني مدين بالكثير لوالدكم وأنا على استعداد لأفعل كل ما تطلبونه مني". وبطبيعة الحال - كما لاحظ ذلك الصحافي الفرنسي بيير توكوا الأكثر معرفة بكواليس العلاقة الفرنسية المغربية – لم ينتبه الملك الشاب آنذاك لجملة شيراك، واكتفى بالإجابة باقتضاب: "نعم.. نعم شكرا"، وانتقل إلى باقي المعزين من الرؤساء والملوك، غير أن شيراك كان قد وضع نصب عينيه أن يأخذ بيدي الشاب الحديث العهد بشؤون الحكم، كما وعد بذلك والده، غير أن الأيام التي تلت جاءت بمستجدات لم تكن في الحسبان، فحسب بعض المعطيات المتوفرة فإنه بمجرد مواراة جثمان الحسن الثاني، عرفت ردهات وأبهاء القصر الملكي بالرباط حركة جلبة خافتة، بين أغلب المقربين من الملك الراحل، والسبب هو محاولة تأمين المستقبل ضد عاديات الزمن، حيث نشر مثلا بيير توكوا في كتابه "آخر ملك.. أفول سلالة"، معلومات بهذا الصدد، أرجع بعضها إلى السنوات الأخيرة لحياة الحسن الثاني، وفَصَّل مثلا في الواقعة التي حدثت بين المرأة الأثيرة التي كانت لدى الحسن الثاني من كل نساء القصر، ونعني بها فريدة الشرقاوي، فهذه الأخيرة حاولت مد ربيبها هشام منداري بالكثير من الأموال التي كانت قَيِّمَة عليها في غرفة نوم الحسن الثاني، غير أن المعني - أي منداري - استغل الفرصة وقام بسرقة العديد من شيكات الحسن الثاني المُوقعة على بياض، كما أخذ أيضا معه وثائق كثيرة من الخزانة الخاصة للملك ثم ذهب إلى أمريكا وأوروبا مهددا ولي نعمته السابق، بإفشاء العديد من الأسرار الخطيرة الخاصة بالقصر؛ بيير توكوا تحدث أيضا عن الفوضى التي عمت أرجاء القصر، حيث حاولت العديد من محضيات الحسن الثاني، انتزع مجوهرات وحلي وأموال خُفية من خزائن الحسن الثاني بقصر تواركة، وذلك اتقاء لمغبة أيام الخصاص، سيما أن ولي عهد الحسن الثاني - أي محمد السادس - لم تكن نواياه واضحة بشأن مصيرهن، وقد كانت الأجواء الجنائزية التي غرق فيها القصر "مناسبة" لإتيان حركات دخول وخروج من القصر دون إثارة الشكوك، وتحدث البعض عن حلي ومجوهرات وكل ما خف وزنه مما يُمكن للنساء إخفاؤه في أماكن حميمية من أجسادهن، قد خرجت من القصر في تلك الظروف العصيبة.
غير أن الحدث الحقيقي بصدد مصير الكثير من ثروة الحسن الثاني الحقيقية هي التي كانت موضوع نزاع بين أشد المقربين إليه، فحسب الصحافي الفرنسي بيير توكوا المتخصص في إفشاء أكثر الأسرار المغربية غوصا في الصدور، وذلك بالاعتماد على مصادر من حاشية القصر، فإن الرئيس الفرنسي جاك شيراك كان مطلوبا منه ذات يوم من صيف سنة 1999، عقب مرور بضعة أشهر على وفاة الحسن الثاني أن يقوم بزيارة مفاجئة خاطفة إلى العاصمة الرباط، حيث جرى اجتماع مُغلق بينه وبين أبناء الحسن الثاني، وكان الموضوع هو الطريقة التي ستتم بها توزيع التركة المالية الهائلة التي خلفها الراحل، وحسب الصحافي الفرنسي نفسه، فإن نزاعا كان قد شب بين الأمراء والأميرات، لذا كان مطلوبا من جاك شيراك أن يحل الإشكال قبل أن تتحول الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه، كأن ينفض المتنازعون عنه ويذهب كل واحد منهم ليقول ما لديه من تظلمات في أماكن شتى من العالم حول "حقه" الذي لم يصله من تركة الحسن الثاني، وكان - حسب الصحافي توكوا دائما - أن استطاع الرئيس الفرنسي مما لديه من علاقات وطيدة، شبه أسرية، مع أبناء الحسن الثاني ( لقد كان رئيس الدولة الأجنبي الوحيد، الذي ينطق أسماءهم العربية بالدقة المطلوبة، في مخارج الحروف حسب توكوا) أن يقترح صيغة لتوزيع الثروة الملكية بين الفرقاء، نالت رضاهم ونزعت فتيل التباغض الذي كان على وشك الاندلاع.
حكى الصحافي الفرنسي المذكور أيضا بعضا من تفاصيل هذا الخلاف الملكي، بين أم الأمراء (لطيفة) ومحمد السادس، حيث كانت المعنية تتبضع يوما ما غداة وفاة الحسن الثاني في أحد أفخم المتاجر بالعاصمة الفرنسية باريس، ليكتشف بعض حراسها الخاصين الأجانب، أن ثمة حراسة أخرى لأم الأمراء كانت تجري دون علمهم، وحينما شكوا في أمرهم، حيث اعتبروهم أفراد عصابة خاطفين، فكان أن حدث الاشتباك ليضطر الحراس السريون إلى الكشف عن هوياتهم باعتبارهم يعملون بأمر من قصر الرباط، فكان أن ثارت ثائرة زوجة الحسن الثاني، وهددت بأنها ستصنع من الواقعة منطلقا لفضيحة دولية مدوية، فتراجع حراس القصر السريون وتركوا المرأة سليلة آل أمحزون تواصل تبضعها في عاصمة النور.
مظاهر الثراء الملكي: كيف اختفت ثم عادت بعد رحيل الحسن الثاني؟
جاء في كتاب "نيكولا بو" و"كاترين غراسيي" (حين يُصبح المغرب إسلاميا) بصدد مظاهر الثراء الملكي بين الحسن الثاني ومحمد السادس ما يلي: ".. بعد مُضي سبع سنوات على رحيل الحسن الثاني حاول ابنه محمد السادس أن يقطع مع مظاهر الثراء والفخفخة المعروفة عن والده، وصحيح أيضا أن محمد السادس شجع وعمَّق الإصلاحات الديمقراطية التي كان أبوه قد التزم بها، مثل حقوق النساء وصولا إلى الحريات العامة. وبالمقابل فإن الملك الشاب تهرب من مسؤولياته في المجال الاقتصادي والاجتماعي. "إن هذا الغر لا يفعل ما يوصيه به جاك"، هكذا اشتكت بيرناديت شيراك (زوجة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك) للمنشط الإذاعي سطيفان بيرن، وهو ما قام هذا الأخير بنقله إلى صحافيين آخرين: ثمة مثال من بين أمثلة أخرى: فخلال أول دورة من سنة 2005 لم يجتمع مجلس الوزراء سوى مرة واحدة بقصر أكَادير على الساحل الأطلنتيكي، حيث كان مجموع الوزراء مُلزمين بالتنقل إلى هناك ذلك لأن الملك لم يكن يريد ترك هوايته المفضلة، وهي جيت سكي. كما أنه رفض حضور جل المؤتمرات الدولية، كما أن جدول استعماله الزمني أصبح من أسرار الدولة (...) وبالمقابل فإنه سافر كثيرا وبمظاهر ثراء جديرة بما كان يفعله والده الحسن الثاني، وبالفعل فإن بعض المقربين منه ألحوا عليه ليتخذ نمط الحياة الثرية التي كانت لوالده، وذلك بالحرص على الإنفاقات الكبيرة بلا حساب خلال سفرياته عبر أنحاء العالم، وبذلك فإن المخزن استعاد حقوقه. كما عاد أفراد الحاشية بنزواتهم ورغباتهم التي تُكلف غاليا، والوجهات المُفضلة للملك هي: فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا وأيضا السينغال وأمريكا اللاتينية والهند وجزر الكاريبي والإمارات العربية المتحدة بل وحتى الفيلبين. حيث يرافق الملك مئات الأشخاص من شتى أنواع الأصدقاء والحاشية ممن يبتسمون برضا وهم يتحدثون عن "التبراع" وشتى أنواع الاستمتاع والتمتع...".
السكرتير الخاص للحسن الثاني الذي "منح" ثلاثة ملايير لزوجته الألمانية
يذهب الكثير من العارفين بكواليس المعاملات المالية للقصر أيام الحسن الثاني، إلى أن كاتبه الخاص عبد الفتاح افرج يُعتبر الوحيد الذي كان يعرف "حقيقة" الثروة الملكية عبر أنحاء العالم فضلا عن تشعباتها بالمغرب، ومعلوم أن الرجل – أي افرج – كان متزوجا من امرأة ألمانية، وليس له منها أبناء، وأنه صفى كل ممتلكاته العقارية بالمغرب بعد وفاة الحسن الثاني، ليرحل رفقة زوجته العجوز إلى بلادها ما وراء نهر الراين ( وحسب بيير توكوا فقد كان افرج رافضا أمر الإقامة في فرنسا، على غرار أغلب أثرياء المخزن المغربي، الذين يختارون فرنسا لقضاء آخر أيام حياتهم، حيث كان يعرف أن ثمة تعاون وثيق بين أجهزة الاستخبارات المغربية والفرنسية)، وقد قدر البعض الثروة التي راكمها الرجل نقدا وعدّا، في مختلف الأبناك العالمية بثلاثة ملايير دولار، وحدث أن عبد الفتاح افرج كان قد نال منه المرض الخبيث كل النيل فمات عقب شهور قليلة من تحويل كل الأموال التي راكمها إلى ألمانيا، حيث كانت وفاته في شهر دجنبر سنة 2005، و"تصادف" هذا مع أحد البنود القانونية للإراثة تجعل ممتلكات النساء الألمانيات المتزوجات من أجانب من نصيبهن، وهكذا عض الكثير من أقرباء عبد الفتاح افرج على أصابعهم جراء ضياع كل تلك الثروة المالية الضخمة الذي "شفطها" قريبهم من المغرب على مر عشرات السنين، وذلك بعدما كان قد دخل قصر الرباط، وبالتحديد لتولي منصب صغير مغمور في الديوان الملكي، وهو لا يملك حتى حذاء محترما حسبما كتبه ذات يوم الصحافي المغربي المخضرم، مصطفى العلوي، العارف بالكثير من مثل هذه التفاصيل الصغيرة والكبيرة، عن الطرق التي اغتنى بها الكثير من "المزلوطين" الذين التصقوا بالحسن الثاني وأدوا له الخدمات المخزنية "الجليلة".
آليات مراكمة الثروة الملكية
تعددت الآليات المعتمدة من أجل الإثراء السريع على حساب الشعب، وقد ساهمت الاختيارات الرأسمالية التبعية منذ الاستقلال في توفير الكثير من السبل والطرق لوضع اليد على الثروات الوطنية بسهولة كبيرة قد تبدو أحيانا من قبيل الأشياء التي لا يتقبلها العقل، ومنها استغلال الديون الخارجية والامتيازات وشركاء الواجهة والإصلاح الزراعي و"المغربة" والخوصصة واسترجاع الأراضي من يد المعمرين الفرنسيين وتجميع الأراضي قبل بناء السد قصد استصلاحها لإعادة توزيعها وقوانين الاستثمار في مختلف القطاعات والاتفاقيات الدولية والهبات والمساعدات الخارجية، وغيرها من السبل غير الشرعية من قبل المضاربة في الامتيازات وتسهيلات اقتصاد الريع واستغلال النفوذ والارشاء والارتشاء، والسطو على الخيرات الوطنية وأموال الشعب، وممتلكاته بمجرد إصدار تعليمات شفوية أو عبر الهاتف، هذا في وقت ظل فيه القصر والعائلة الملكية في عهد الحسن الثاني المصدر الأساسي للإثراء ومركزا لمنح مختلف الامتيازات، وهي في عمومها نفس الآليات التي اعتمدها الاستعمار لإثراء المعمرين وعملائه والمتعاونين معه ورجال ثقته.
على امتداد فترة العهد الحسني ظل رجل واحد يتحكم في دواليب المنظومة الاقتصادية المغربية، إنه الملك الراحل الحسن الثاني، أمير المؤمنين والقائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية ورئيس الدولة.
قد يبدو الأمر غريبا في أعين الكثيرين إذا قلنا إن مختلف أساليب القمع والرعب والتخويف تعد، هي كذلك آلية من آليات تكوين الثروة ومراكمتها، وللتدليل على هذا القول تكفي الإشارة إلى ملاحظة تستدعي حقا التأمل، إذ منذ سنة 1956 إلى حدود التسعينات، لم يمر شهر واحد دون أن يكون الفلاحون أو الطلبة أو التلاميذ أو العمال أو المثقفون أو معتقلو الرأي، أو المعتقلون السياسيون أو حاملو الشهادات المعطلون أو حتى الجنود، في قلب حدث من الأحداث، ودون أن تعلن إحدى هذه الفئات عن غضبها أو تنديدها بالوضع المزري.
في خضم الغضب المستشري في صفوف أوسع فئات الشعب خلال الستينات والسبعينات ارتأى الملك الحسن الثاني إصدار سلسلة من قوانين الاستثمار، وخص كل قطاع بقانونه، وقد شكلت هذه القوانين آلية جوهرية من آليات تسهيل مراكمة الثروة الملكية، وكانت البداية بإصدار قانون الاستثمارات الفلاحية في صيف 1969، لإنعاش وتشجيع الاستثمار التكميلي بخصوص التجهيزات التحتية في المناطق السقوية، وبذلك استفاد كبار الملاكين العقاريين من إعفاءات متعددة وبمساعدات خاصة بالبذور والأسمدة والعلف والمعدات واقتناء رؤوس المواشي والاستفادة من مجانية ماء السقي التي تحملت مصاريفه الدولة عوضهم، وعلاوة على هذه المساعدات والتسهيلات أقر قانون الاستثمارات الفلاحية مجموعة من الإعفاءات وإلغاء الرسوم المرتبطة بالمعدات والتجهيزات الفلاحية والإعفاءات من الضرائب غير المباشرة بخصوص كافة التجهيزات بالري، وكذلك الأمر بالنسبة لرسوم التصدير.
ومن المفارقات الغربية، والتي لا يعرفها الكثير من المغاربة، أن بعض المؤسسات المالية المغربية التي كانت تبدو في الظاهر أنها أنشئت لخدمة الاقتصاد الوطني، خلقت خصيصا لتمكين أشخاص بعينهم من تطوير ثرواتهم ومراكمتها، وكذلك لخدمة الرأسمال الأجنبي والمصالح الخارجية ودون علمهم، ومن هذه المؤسسات البنك الوطني للإنماء الاقتصادي (BNDE : Banque Nationale de développement économique)، الذي ظل منذ 1962 تحت مراقبة الرأسمال الأجنبي، لاسيما مجموعة "موركن كوارانتي تروست" (Morgan Guaranty Trust)، وهي تابعة للبنك الدولي، وإلى جانبها أيضا أبناك فرنسية، ففي سنة 1973 منح البنك الوطني للإنماء الاقتصادي قروضا ضخمة لشركات أجنبية، منها "كوديير" و"ماناطيكس" التابعين لبنك عائلة "رولتشيد" بنك باريس والبلاد المنخفضة، (Banque de Paribas) " ولافارج المغرب" (قطاع الاسمنت)و "أنتيرلانس (جيليت).
ومن الأساليب الماكرة المستعملة في عهد الحسن الثاني للسطو "بطريقة قانونية" على ممتلكات الشعب في واضحة النهار، سيادة التعامل بعقلية "التفويتات بالدرهم الرمزي" كآلية من آليات تكوين الثروات ومراكمتها، وللتأكد من هذا الأمر يكفي الرجوع إلى أرشيفات إدارة الأملاك المخزنية وكذلك المحافظات على الأملاك العقارية والرهون في مختلف أنحاء المغرب للوقوف على الكثير من عقود تفويت العقارات والضيعات وأحيانا الشركات بالدرهم الرمزي، لاسيما خلال الفترة ما بين 1961 و1985.
ولم يعد خاف الآن على أحد أن مصدر الامتيازات بالمغرب هي الأسرة الملكية والدوائر المقربة جدا من الملك، علما أنه في فترة ما بين حصول المغرب على الاستقلال وبداية التسعينات، ظل أثرياء المغرب يضعون أنفسهم وما يملكون رهن إشارة الملك الراحل الحسن الثاني ولخدمته، وذلك ليزدادوا ثروة ونفوذا واستفادة أكثر من الامتيازات وتغاضي الطرف بخصوص نهبهم للثروات الوطنية وأموال وممتلكات الشعب. وبذلك يبدو أنه كلما كان أثرياء المغرب يساهمون في توسيع مدى ومجالات ثروة الملك الحسن الثاني وتسريع وتيرة تراكمها وتنوعها يساهمون في ذات الوقت في مراكمة ثروتهم الخاصة، ولعل هذه الممارسة تمثل إحدى الأوجه الحقيقية لشعار، طالما شنف آذان المغاربة خلال أزيد من ثلاثة عقود، وهو شعار "إغناء الفقير دون تفيقر الغني"، في حين أن الواقع المعيش ظل يكرس عكس ذلك، بالتمام والكمال، أي "المزيد من إثراء الأثرياء وتفقير الفقراء".
كما أن الكثيرين كانوا يعتبرون أن الهبات والمساعدات الدولية كانت تعرف طريقها إلى القطاعات والمقاصد المرصودة لها، إلا أنها من حيث لا يخطر على بال هؤلاء، ساهمت بقدر متفاوت، حسب المراحل، في مراكمة ثروة مجموعة من القائمين على الأمور ببلادنا.
وفي هذا الصدد، من المعلوم أن المغرب استفاد، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، من ملايير الدولارات من أجل تعويض زراعة "الكيف" بمنطقة الريف بمزروعات غير ممنوعة، ورغم ذلك استمر هذا النوع من الزراعة "الممنوعة قانونيا" في التوسع والانتشار حتى أضحت تهم مناطق بعيدة عن الريف. وقد عمل جاك شيراك، رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك، على الدفع لتمكين المغرب من الاستفادة من مساعدات أوروبية مضاعفة القيمة، وذلك مباشرة بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية.
لعبت التعليمات، لاسيما الشفوية منها، دورا حيويا، في إثراء الملك الراحل الحسن الثاني والعائلة الملكية، وكانت تكفي مكالمة هاتفية في أي وقت أو بعث مرسول يحمل رسالة شفوية، لوضع اليد على أراضي فلاحية أو ضيعات أو عقار في أي مكان بالمغرب. ومن الأمور التي سهلت استعمال التعليمات الشفوية كآلة من آليات الثراء السريع التحكم في الشأن السياسي عبر قمع الحركات المنادية بالتغيير وإسكات صوتها بقوة النار والحديد.
ففي مرحلة ما بين فجر الستينات ونهاية الثمانينات عاين المغرب فبركة أحزاب، سميت آنذاك، بأحزاب "كوكوت مينوت"، ظلت تسيطر على الشأن السياسي "الرسمي" والشأن المحلي، شكلت هي كذلك آلية من آليات الإثراء غير المشروع.
كما أن من بين الطرق التي كان يستعملها الملك الراحل الحسن الثاني الاعتماد على أشخاص كواجهة، يشاركونه في جملة من المشاريع أو الصفقات أو يقتنون عقارات ومصالح باسمهم لفائدته، ومن الأشخاص الأجانب الذين كانوا يشاركون الحسن الثاني في الكثير من المشاريع والصفقات المربحة، هناك "روبير ماكسويل"، وهو رجل أعمال مغامر.
وبعد "المغربة" بصيغتيها، (السبعينات والثمانينات)، جاءت الخوصصة لتشكل كذلك آلية إضافية من آليات مراكمة الثروة وتسريع وتيرة تنميتها.
فعندما اقتنع الحسن الثاني بضرورة عولمة الاقتصاد المغربي، حتى قبل بروز مصطلح "العولمة" وشيوعه، اقتنى مجموعة "أونا"، وشرع مبكرا في إعدادها وتهييئها لجعلها شركة عابرة للحدود المغربية والمحرك الأساسي للمنظومة الاقتصادية المغربية، وقد جنى من وراء ذلك أرباحا طائلة.
مكتب التسويق والتصدير
من المكاتب التي ساهمت بشكل كبير في تنمية ثروة الملك الراحل الحسن الثاني والعائلة الملكية، مكتب التسويق والتصدير.
عندما أعلن الملك عن حالة الاستثناء، قام باتخاذ جملة من الإجراءات لمراقبة تسويق المنتوجات الفلاحية المصدرة إلى الخارج؛ وبعد ثلاثة أشهر من انتفاضة مارس 1965، أحدث بظهير (مرسوم) 9 يوليوز 1965 مكتب التسويق والتصدير (OCE: Office de Commercialisation et d Exportation)، الذي عوض المكتب الشريف للصادرات (Office Chérifien des Exportations) الذي خلفته السلطات الاستعمارية منذ سنة 1932.
مع حلول سنة 1966 احتكر مكتب التسويق والتصدير، تصدير الحوامض والبواكر والخمور والمصبرات النباتية، أي ما يفوق 41 بالمائة من صادرات المغرب آنذاك، ومنذئذ عمل هذا المكتب على توجيه الزراعة المغربية لتلبية حاجيات السوق الخارجية وخدمة الصادرات، وكان يتدخل في جميع المراحل بدءا من التقرير في طبيعة المزروعات مرورا بالإنتاج والتعليب والتحويل الصناعي والنقل والتسليم بالأسواق الخارجية.
وكان لمكتب التسويق والتصدير علاقات وطيدة مع جملة من المؤسسات المالية الدولية.
هكذا تمكن هذا المكتب من جعل المغرب مجرد حقل لتوفير الحوامض والطماطم للسوق الأوروبية.
في هذه الفترة تم إعفاء كبار الملاكين من الضرائب ومن الرسوم المرتبطة بالتصدير وكذلك إعفاؤهم من الضريبة على الدخل بدءا من سنة 1984.
وبذلك كان كبار الملاكين العقاريين، ومن ضمنهم الملك، يحققون أرباحا طائلة دون أداء ولو درهم واحد لخزينة الدولة. في نفس الوقت عملت الدولة على تحرير أسعار المنتوجات المصدرة مقابل تجميد المنتوجات المرصودة للاستهلاك الداخلي، الشيء الذي لم يشجع الإنتاج المحلي، فقامت الدولة بتغطية الخصاص باللجوء إلى الأسواق الدولية لاستيراد منتوجات الاستهلاك الداخلي بأثمنة زهيدة وعرضها في الأسواق بأثمنة أخرى مكلفة، وبذلك تمكن المضاربون من تحقيق أرباح مهمة، انضافت إلى أرباحهم المرتبطة بالمنتوجات المصدّرة إلى الخارج.
هكذا ساهم مكتب التسويق والتصدير، كآلية من الآليات، في تنمية ثروات كبار الملاكين، ومن بينهم الملك والعائلة الملكية.
ومن المؤشرات الدالة على سرعة وتيرة تنمية وتراكم هذه الثروات بروز تعميق الفوارق الاجتماعية ما بين 1960 و1971، إذ جاء على لسان فتح الله ولعلو، عندما لم يكن بعدُ قد وضع على عينيه النظارات الوردية، أن مصاريف الاستهلاك الخاصة بـ 10 بالمائة من المغاربة (الأكثر غنى) ارتفعت من 25 إلى 37 بالمائة، فيما انخفضت من 3.3 بالمائة إلى 1.2 بالمائة بخصوص 10 بالمائة بالنسبة للمغاربة الأكثر فقرا بالمغرب.
من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار الجديد
منذ فجر القرن التاسع عشر كتب الروائي الفرنسي المشهور "فيكتور هوجو" قائلا: "(...) يا شعوب اذهبوا إلى إفريقيا وخذوا الأرض هناك وحلوا إشكالياتكم الاجتماعية، حولوا بروليتاريتكم إلى ملاكين(...)".
وفي سنة 1903 كتب "أوجين اتيين" قائلا: "(...) هناك (أي بإفريقيا) مناجم الفوسفاط والحديد وأراضي الزراعة الخصبة وأشجار الزيتون(...) طرقا وسككا حديدية وموانئ تنتظر الخلق لفائدة صناعتنا الثقيلة ولشركاتنا ومقاولينا(...) لنؤسس مجالا واسعا، أطرافه مترامية من الخليج إلى المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط فالصحراء الكبرى، يضم تونس والجزائر والمغرب في نطاق إمبراطورية شمال إفريقيا".
هكذا كانت الانطلاقة، وقد سبق أصحاب المصارف والمقاولين فتبعتهم المدافع، للقيام بمهمة حضارية "إدخال شعوب إفريقيا إلى عصر الحضارة وتلقينهم الحرية".
احتلت فرنسا وإسبانيا المغرب، وبعد أكثر من أربعة عقود من الاستعمار، اعتبر الكثيرون سنة 1956 (الاستقلال) أن المغرب مازال غير مؤهل لممارسة الديمقراطية وغير ناضج لاعتمادها، ولذلك قامت مرحلة جديدة من الاستعمار الجديد.
لذلك منحت الدول المستعمرة الاستقلال المنقوص للمغرب، وتجلى هذا النقص بجلاء في مجالات التبعية الاقتصادية والتبعية الاستراتيجية والشعبية الثقافية والتبعية السياسية، وكلها ساهمت في تفعيل ثراء الحسن الثاني والأسرة الملكية، لاسيما مع بداية الستينات. آنذاك كانت فرنسا قد رسخت أقدام عملائها وخدامها في الخريطة السياسية والاقتصادية بالمغرب قبل رجوع الملك محمد الخامس إلى المغرب لاسترجاع عرشه.
ومنذ أن اعتلى الحسن الثاني عرش البلاد سنة 1961، انكب على تكسير شوكة المعارضة، بجميع أشكالها وعلى جميع الأصعدة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ودينيا. ومنذ تلك الفترة ترسخت بين فئات الشعب المغربي فكرة تشبيه المغرب بسجن كبير.
علما أن حصول المغرب على الاستقلال (الأعرج حسب رأي الكثيرين) كان بفضل المقاومة ونشوء جيش التحرير، الشيء الذي انعكس على العلاقات بين الوطنيين والبلاط منذ فجر الستينات، بفعل جملة من الأحداث ظلت تداعياتها فاعلة إلى حدود نهاية الثمانينيات، وعلى رأسها، الطريقة التي تَمَّ بها حل جيش التحرير بالشمال وسحق جيش التحرير بالجنوب، عندما أصبح الحسن الثاني، ولي العهد آنذاك، قائما على القوات المسلحة الملكية. وتلى ذلك القمع الدموي الذي تعرضت له انتفاضة الريف من طرف الجيش تحت قيادة الحسن الثاني، ولي العهد، ثم التصدي للمعارضة التي أخذت على عاتقها قلب النظام كسبيل لتخليص البلاد.
هذه بعض معالم بداية عهد الحسن الثاني، والتي وصفها مومن الديوري بمرحلة "الرغبة في جعل المغرب أحسن تلميذ في عين صندوق النقد الدولي".
وجاء عقد السبعينات، فتصاعدت لهجة المعارضة مرفوقة بالقمع الممنهج لكسرها، ولم يكن أمام الحسن الثاني أي خيار إلا الخضوع لتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتظاهر باعتماد "الثورة الليبرالية" تحت شعار "إغناء الفقير دون تفقير الأثرياء"، آنذاك كانت كمشة من المغاربة قد استحوذت على أكثر من 90 بالمائة من الثروات الوطنية تاركة بقية الشعب تترنح في أجواء الفقر والحرمان.
وقد رأى مجموعة من المحللين الاقتصاديين، في المسار الاقتصادي الذي سار عليه المغرب، أنه ظل محكوما بضرورة الانصياع للخارج والتبعية له. وفي هذا الصدد اعتبر البعض منهم أن الملك الراحل الحسن الثاني ظل سائرا على هذا الدرب، مما أدى في نهاية المطاف إلى بيع ثروات البلاد ومواردها البشرية وموقعها الاستراتيجي، بعد أن غرقت البلاد في مستنقع الديون الخارجية وبعد أن ارتبطت منظومتنا الاقتصادية بالرأسمال الأجنبي.
وبذلك اعتبر البعض أن ثراء الملك الحسن الثاني، جاء، في جزء مهم منه، نتيجة لهذا الارتباط (ارتباط اقتصادنا بالمصالح الأجنبية).
ألم يكن الملك الراحل الحسن الثاني، الملاك العقاري والمقاول والمالي والمصرفي الأول بالمغرب؟
تنمية الثروة الملكية عبر الخوصصة والمساهمات المتنوعة. فيما بين أبريل ودجنبر 1990، بمناسبة الجدال والحوار بخصوص الإعداد للقانون الذي سيعرف بعد ذلك باسم "قانون الخوصصة" المرخص للحكومة ببيع 112 مؤسسة وشركة عمومية (منها 4 من أكبر الأبناك، هولدينغ مالي، 3 شركات فلاحية، 10 معامل لصناعة السكر، معمل تركيب السيارات، 7 شركات بترولية و37 مؤسسة فندقية)، أجمع المشاركون على تسطير ملاحظة أقلقت أغلبهم، وهي تواجد مجموعة أخطبوطية في قلب المنظومة الاقتصادية المغربية، إنها مجموعة "أومنيوم شمال إفريقيا" والتي كان الملك الراحل الحسن الثاني يملك وقتئذ أكبر جزء من رأسمالها.
فعلا، خلال عقد من الزمن، أصبحت مجموعة "أونا" تشكل العمود الفقري للاقتصاد الوطني وركيزته الأساسية، علما أنها كانت في البداية مجرد نواة تدور في فلك بنك باريس والبلاد المنخفضة، لكنها بدأت تتوسع بفعل ارتفاعات متتالية لرأسمالها وبفعل امتصاصها لجملة من الوحدات والمجموعات منها "كوجيسبار" (COGESPAR) و"سيهام" (SIHAM)؛ وارتكازا على "استراتيجية هجومية" في مجال الأعمال، تم التخطيط بجميع الوسائل لوضع اليد على مجموعة من الشركات العمومية، كما تم رسم خطة لتجميع ومركزة بعض الأنشطة وتوزيع أخرى.
وبذلك تمكنت "أونا"، أن تصبح أضخم هولدينغ مالي بالمغرب منذ بداية الثمانينات، حيث تأكد بجلاء توسعها الأخطبوطي، الشيء الذي جعلها تحقق أرباحا لم يسبق أن تمكنت أية مجموعة من تحقيقها من قبل.
لقد قفز رقم معاملاتها من مليارين و600 مليون درهم سنة 1982 إلى 9 مليارات من الدراهم سنة 1988، كما أن أرباحها قد تضاعفت مرتين فيما بين سنة 1987 و1988، حيث قفزت مما يناهز 223 مليون درهم إلى 448 مليون درهم، وارتفعت مواردها الخاصة بنسبة 62 بالمائة وبلغت قيمتها المضافة مليارين من الدراهم. ومنذئذ لم يتوقف تطورها.
في سنة 1990 بلغ عدد الأشخاص الذين تشغلهم أكثر من 15 ألف، وكانت تملك آنذاك 43 شركة بالمغرب وتراقب بطرق غير مباشرة على أقل تقدير 86 شركة في مختلف القطاعات والأنشطة المربحة. كل هذه الشركات التابعة لمجموعة "أونا" تحتل مواقع استراتيجية في النسيج الاقتصادي الوطني، وقد تم توزيعها كالتالي:
- 10 وحدات في قطاع الصناعات الغذائية والفلاحية وتمثل ما نسبته 20 بالمائة من القيمة المضافة لهذا القطاع، منها 3 وحدات لصناعة الحليب ومشتقاته و3 معامل لصناعة السكر و3 وحدات لصناعة الزيوت.
- 6 شركات منجمية.
- شركتان (2) في قطاع النقل.
- شركتان لتركيب السيارات.
- 3 شركات في قطاع النسيج.
- شركتان في قطاع الصناعة الكيماوية.
- شركة للصيد البحري.
- مطبعة.
- 6 شركات في قطاع الخدمات.
- شركة عقارية ضخمة بحوزتها رصيد عقاري حضري هائل.
- شركتان في قطاع السياحة.
- شركتان في قطاع التأمينات.
- 3 أبناك.
- شركة كبيرة للدراسات والاستشارات المالية.
- محطة تلفزية.
- صحيفة.
- مركز لدراسة التوقعات.
- سلسلة من الأسواق الضخمة (قطاع التوزيع والتجارة)
وشركات أخرى من الصعب تعيينها اعتبارا لتوسع أطراف الأخطبوط الذي تولد من نواة "أونا" الأولى على مر السنين، لاسيما أن درجة الشفافية المالية المعتمدة بالمغرب مازالت غير كافية للتمكن من الإطلاع على كل المعلومات، ونظرا لأن أبواب الإدارات والمؤسسات العمومية مازالت موصدة في وجه الباحثين المستقلين غير الموالين للدولة والمتعاملين معها.
وزادت مجموعة "أونا" من تنمية قوتها الأخطبوطية بفعل ابتلاعها سنة 1988 للبنك التجاري المغربي (BCM)، وبالتالي مراقبة كل الوحدات التابعة له.
ومع تفويت 2.5 بالمائة من رأسمالها إلى البنك الوطني لباريس (BNP)، تمكنت المجموعة من المساهمة بنسبة 13 بالمائة في رأسمال البنك المغربي للتجارة والصناعة (BMCI). ومكنها هذا الرصيد المالي من وضع قدمها في الأسواق العالمية وولوج بورصة باريس، وبفضل هذا الإنجاز استطاعت المجموعة الملكية في عهد الحسن الثاني المساهمة في رأسمال بنك باريس والبلاد المنخفضة (Paribas) ومجموعة "بولوري" (Bolloré) و"التأمينات العامة لفرنسا" (AGF) وشركة بوجو (Peugeot) و"نادي البحر الأبيض المتوسط" (Club Méditerranien).
ومنذئذ اهتمت مجموعة الحسن الثاني بقطاع السياحة أكثر من السابق، حيث برمجت آنذاك إلى حدود 1993 استثمارا سياحيا تفوق قيمته 5 ملايير درهم.
كما أن لمجموعة "أونا" مساهمات أخرى، منها 10 بالمائة في شركة "أسفار هافاس" و10 بالمائة في "دينرز كلوب" (Diners Club) وشركات النقل وشركات استثمار عالمية، كما ساهمت إلى جانب البنك الوطني لباريس في مشاريع صناعية (قطاع الصناعات الغذائية) بفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، وهذا ما جاء في جملة من المقالات نشرتها مجلة "مغرب – مشرق" في أبريل/ يونيو 1990.
في هذه الفترة كان صهر الملك الراحل الحسن الثاني، فؤاد الفيلالي يضطلع بمهمة نائب الرئيس المدير العام للمجموعة.
ومقارنة مع المجموعات المالية الخاصة بالمغرب ظلت المجموعة الملكية "أونا" تحتل المرتبة الأولى بمسافة بعيدة عن المجموعات التي تليها، كمجموعة مولاي علي الكتاني التي كان رصيدها آنذاك (بداية التسعينات) بنكا و32 شركة وشغيلة يناهز عددها 10 ألف شخص، وتأتي بعدها مجموعة كريم العمراني، الوزير الأول السابق، بامتلاكها لبنك و29 شركة.
علما أنه هناك عرفا ظل قائما على الدوام، وهو بمثابة "قانون اقتصادي" متعارف عليه بين كبار أثرياء المغرب، مفاده أنه لا يصح أن يكون بالمغرب شخص أثرى وأغنى من الملك، وبذلك كان من الضروري أن تكون ثروة الملك في عهد الحسن الثاني أكبر ثروة موجودة بالمغرب، وبالتالي استفادته أكثر من غيره وقبل أي كان من الآليات المتوفرة لحيازة الثروة ومراكمتها وتنميتها، سواء أمر بذلك أم لم يأمر به، ما دام أن القاعدة هي عدم جواز وقبول منافسته في أي مجال من المجالات ولاسيما فيما يخص الثروة.
"أونا".. بدأت صغيرة جدا
بفضل التهامي الكلاوي، باشا مراكش وعميل الاستعمار الأول وبدون منازع، تمكن الفرنسي "جون إيبينات" من الاستحواذ على مناجم المغرب وخلق شركة "أومنيوم شمال إفريقيا" سنة 1924 بمساهمة بنك "باريبا" لتدبيرها واستغلالها وجني أرباحها، وبعد سنوات من إنشائها أصبح الملك الراحل الحسن الثاني (ولي العهد وقتئذ) رئيسا مديرا عاما لشركة "سماك" (SMAG)، وهي شركة كانت تابعة لـ "أونا".
أصبح الحسن الثاني، وبطلب من فرنسا، القائم على "أونا" بعد أن مركزت كل المناجم المربحة بالمغرب، لاسيما الذهب والفضة والنحاس والزنك والفوسفاط، إذ أن نسبة 70 بالمائة من أرباحها كانت تذهب إلى خزائن العائلة الملكية.
تطورت "أونا" وتوسعت أنشطتها بعد أن وضعت يدها على الصناعات الغذائية والفلاحية، وأصبحت تراقب 92 بالمائة من المواد الدسمة (الزيوت، الزبدة، الحليب)، و60 بالمائة من السكر، ثم عملت على اكتساح قطاعات جديدة، منها السياحة والتأمينات وتركيب السيارات والنقل ومواد التجميل (Cosmétique) والعقار وغيرها، وبذلك لم يفلت أي نشاط من الأنشطة الاقتصادية ذات الربح العالي من سيطرتها.
كما أن "أونا" تمكنت، في عهد الحسن الثاني، من امتلاك 40 بالمائة من رأسمال ثلاثة أبناك تعتبر من كبريات المصارف بالمغرب، وبذلك أضحى من الضروري على الراغبين في الاستثمار بالمغرب الحصول على الموافقة الشخصية للملك، الفاعل الاقتصادي الأول بالبلاد.
آنذاك بدأ القائمون على الأمور يقدمون مجموعة "أونا" كمحرك من شأنه أن يقود البلاد إلى التنمية والازدهار، وموازاة مع ذلك، كانت ثروات الملك والعائلة الملكية تنمو بسرعة كبيرة، وكذلك الأمر بخصوص الديون الخارجية التي وصلت حينئذ إلى 22 مليار دولار أمريكي، وبلغ يأس الكثير من المغاربة درجة لم يسبق لها مثيل.
ففي المغرب 1992 تم إحصاء 9.2 مليون شخص يعيش تحت خط الفقر و11.2 مليون لا يعرف الكتابة ولا القراءة، هذا ما أقره تقرير الأمم المتحدة للتنمية في مارس 1992.
حسب جريدة "لوموند" الفرنسية، بلغ رقم معاملات مجموعة "أونا" سنة 1991 ما يناهز 8.7 مليار فرنك فرنسي و351 مليون فرنك فرنسي كأرباح. آنذاك انضاف إلى رصيد المجموعة 50.20 بالمائة من رأسمال الشركة الفرنسية "أوبتورك" (OPTORG) الناشطة في التوزيع والصيانة التقنية.
ومن خلال "سيجير" أصبحت مجموعة "أونا" الدرع الاقتصادي للحسن الثاني والبلاط. وبذلك تمكن من جعل مجموعته المجموعة الاقتصادية والاستثمارية الأولى، بدون منازع، بالمغرب.
الأراضي المسترجعة
من الأمور التي لم يستسغها العديد من الفلاحين والكثير من القبائل، قضية مآل الأراضي التي اغتصبها الاستعمار من أبائهم وأجدادهم، والتي رغم استرجاعها من طرف الدولة بعد الاستقلال لم ترد لأصحابها الأصليين، وإنما تم تفويتها إلى جماعة من المحظوظين والمقربين ومسؤولين كبار في الجيش، وذلك بعد أن وضع القصر يده على ما أراد منها. وهذا أمر ظل عسير الفهم بالنسبة للساكنة القروية، لاسيما الفلاحين الصغار والمعدمين، في جميع أنحاء البلاد.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما تجاوزه إلى حد الترامي على بعض الأراضي التي بحوزتهم أو تفعيل مسطرة نزع الملكية قصد المنفعة العامة، كما يقال، لتجريدهم من حق ملكيتها وإجبارهم على قبول تعويض تحدده لجنة الإدارة أو الجهاز القضائي بعد مرور سنوات عديدة، الشيء الذي أدى إلى بروز حركات احتجاجية ساهم فيها فلاحون وأحيانا قبائل برمتها، صغيرها وكبيرها، نساؤها ورجالها، كهولها وشبابها، وأغلبها ووجهت بالقمع الشرس، وهذا ما حدث عندما انتفض فلاحو قبيلة أولاد سعيد بضواحي سطات للمطالبة باسترداد أراضيهم التي كانت السلطات الاستعمارية قد نزعتها منهم ومن آبائهم بقوة الحديد والنار، منحت بجرة قلم، بعد استرجاعها، في نهاية الستينات للمقربين من البلاط.
وكذلك الأمر بالنسبة لأبناء قبيلة أولاد عياد بمنطقة بني ملال الذين قاموا، قومة الرجل الواحد، للتصدي لتحويل مياه الري إلى ضيعة أحد الشخصيات الوازنة المستفيد من الأراضي المسترجعة على حساب حق الفلاحين في مياه السقي.
فمنذ سنة 1956، بعد حصول المغرب على الاستقلال، آلت مجموعة الأراضي المسترجعة أو الأراضي المصادرة من الخونة (لاسيما أملاك التهامي الكلاوي، باشا مراكش وعميل الاستعمار) إلى الملك وبعض المقربين منه ومجموعة من المحظوظين عوض إرجاع الأولى لأصحابها الأصليين. وبعد مرور سنوات قليلة من تربعه على العرش تم تصنيف الملك الراحل الحسن الثاني كأحد أكبر أغنياء العالم العشرة الأوائل.
وفي بداية الستينات، في وقت بدأ فيه الملاكون العقاريون الكبار يستحوذون على الأراضي المسترجعة من الأشخاص الذاتيين الأجانب (المعمرين الفرنسيين الخواص)، أضحت العائلة الملكية بسرعة من أكبر الملاكين العقاريين عبر استخدام وتفعيل مسطرة تفويتها للخواص، غالبا بأثمنة زهيدة جدا لا ترقى حتى للحد الأدنى المتعامل به في السوق العقارية، أي تفويت الأراضي بأقل من قيمتها الآنية بكثير، وأحيانا كثيرة بأثمنة رمزية. ومن الإدارات التي ساهمت في تفعيل آليات التفويت السريع، وزارتي الفلاحة والمالية (الأملاك المخزنية)، هذا قبل اعتماد ما سمي بـ "المغربة" سنة 1973 ثم في الثمانينات.
الديون الخارجية آلية من آليات تكوين الثروة ومراكمتها
قد يبدو من الغريب القول بأن الديون الخارجية ساهمت في تكوين ومراكمة ثورة الحسن الثاني والعائلة الملكية، إلا أن جزءا كبيرا ضخ بالمنظومة الاقتصادية، لاسيما في قطاعات تعرف حضورا قويا للمصالح الأسرة الملكية.
وإذا كانت الديون الخارجية آلية من آليات تنمية الثروات الملكية والمحيطين بالبلاط فإنها كرست نقيض النتائج التي تم الإعلان عنها رسميا، حيث أنها مكنت من رفع متوسط الواردات بما نسبته 16.9 بالمائة في السنة، في حين ساهمت في رفع الصادرات بنسبة 8.1 بالمائة فقط سنويا، علما أنه، لم تستفد المنظومة الاقتصادية الوطنية من العملة الصعبة، إذ أن اقتناء المعدات والتجهيزات الفلاحية من الخارج جعلت مداخيلها تُروّج بالأسواق الأجنبية، في وقت كان من المفروض أن تساهم الصادرات في تنمية مباشرة وسريعة للاقتصاد الوطني.
وبذلك تكون الديون الخارجية قد ساعدت البعض، بشكل كبير، على الإثراء السريع، وشكلت آلية من آلياته، علما أن تلك القروض رهنت مستقبل أجيال من المغاربة إلى حد إيصال المغرب إلى وضعية "السكتة القلبية" أكثر من مرة، وذلك فيما بين 1965 و1990.
علما أن القروض الخارجية لعبت دورا جوهريا في ضرب سياسة الأمن الغذائي التي كان المغرب قد اعتمدها، ووظف استثمارات طائلة في القطاع الفلاحي لبلوغ ضمان أمنه الغذائي عندما كان الحديث جاريا في العالم حول "السلاح الغذائي"، حيث أنه منذ بداية السبعينات انقطع أدنى ارتباط بين الإنتاج الفلاحي العصري وحاجيات الاستهلاك الداخلي ومتطلبات السوق الوطني. كما عرفت واردات مواد الاستهلاك الحيوية توسعا وارتفاعا غير مسبوق ببلادنا.
آنذاك اتضح بجلاء أن الفلاحة المغربية تنتج للخارج وتعمل لتلبية حاجيات ومتطلبات الأجانب، ويعتمد المغرب على الأسواق الخارجية لتلبية حاجيات الاستهلاك الداخلي، وحصل ذلك في أوج الترويج لخطات "ضرورة وحيوية تحقيق الأمن الغذائي".
"المغربة"
بعد الانقلاب الأول (الصخيرات 1971) قدم الملك الراحل الحسن الثاني نزرا من "النقد الذاتي" والكثير من الوعود في خطاب 4 غشت 1971، والذي جاء فيه... "(...) يمكن القول إن المغرب كان حقا كنزا(...) لكن بعض المغامرين سولت لهم أنفسهم التعدي على هذا الكنز وحاولوا الاستيلاء عليه(...) أرادوا الاستيلاء على السلطة والسطو على الممتلكات والأشخاص(...) لقد صرحنا مرارا أن سياستنا الاقتصادية والاجتماعية استهدفت إغناء الفقير دون تفقير الغني. لكن مع الأسف الشديد، لأسباب لا داعي للرجوع إليها، لاحظنا أنه بقدر ما أن الفقير لم يغتن، زاد الغني ثراءا(...) وهذا وضع غير مسموح به(...) وعلى الحكومة المقبلة أن تعمل كل ما في وسعها لإعادة توزيع الدخل الوطني توزيعا عادلا(...)".
بعد هذا الخطاب بيومين عين الحسن الثاني، يوم 6 غشت 1971، كريم العمراني وزيرا أول لطمأنة فرنسا والرأسمال الأجنبي (علما أنه كان وزيرا للاقتصاد في الحكومة السابقة)، وللسهر على تفعيل "المغربة" التي استهدفت منذ 1972 جزءا كبير من الأنشطة الاقتصادية والأراضي المسترجعة التي كانت بيد الخواص الأجانب.
وبفضل هذه "المغربة" تمكن الحسن الثاني من "إرشاء" كبار البرجوازيين وكبار الضباط والمقربين للبلاط، وكذلك تنمية الثروة الملكية، بعد المحاولة الانقلابية الثانية (16 غشت 1972).
وللمخدرات علاقة كذلك
في كتابه "18 سنة من العزلة: تازمامارات" الصادر سنة 1993، أزاح "علي بوريقات" الستار عن تعاون فرنسي – مغربي في مجال تهريب المخدرات، وفي هذا الصدد برز اسم "شارل باسكوا" وزير الداخلية الفرنسي سابقا.
ظلت إشكالية المخدرات حاضرة بقوة كلما نقبنا في موضوع طرق الإثراء السريع في مغرب السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات... عائلات ثرية تاريخيا وأخرى حديثة الثراء ارتبط اسمها أو نشاط أحد أفرادها بشبكات تهريب المخدرات والاتجار بها.
وفي هذا المضمار، سبق لجريدة "لوموند" الفرنسية أن نشرت تقريرا في الموضوع تحت عنوان: "المغرب، المُصدِّر العالمي الأول للحشيش" مرفوقا بعنوان فرعي: "تقرير سري يتهم مقربين من الملك الحسن الثاني"، علما أن كاتب المقال اعتمد على بحث سري أنجزه المرصد الجيوسياسي للمخدرات (OGD: Observatoire géopolitique des drogues).
وقبل أن يضر تقريره السري رصد الأنشطة المرتبطة بالمخدرات على امتداد سنوات وخرج بخلاصات بخصوص إنتاج الحشيش والمساحات المرصودة لزراعة "الكيف"، وذلك قبل إصدار حكمه الأخير: "(...) المغرب، المُصدِّر العالمي الأول للحشيش والممون الأول لأوروبا...".
تضمن التقرير الأصلي أسماء وازنة بعينها من الدائرة المقربة جدا من الملك الراحل الحسن الثاني وبعض الوزراء السابقين المتورطين في تهريب المخدرات أو المشاركة فيه، إلا أن بيروقراطيي أوروبا (لاسيما الفرنسيين منهم) التمسوا بسرعة من معدي التقرير سحب الأسماء الوازنة التي تضمنها وعدم تعيين المتورطين.
من القضايا الغريبة التي أثارت العديد من التساؤلات، موقف "جاك شيراك" و"شارل باسكوا" وأجهزة مكافحة المخدرات الفرنسية اتجاه قرار السلطات الهولندية، آنذاك، بخصوص شرعنة بيع الحشيش بالأراضي المنخفضة.
فمباشرة بعد العودة من جولته الإفريقية، التي بدأها بالتوجه إلى المغرب، هاجم "شيراك" السلطات الهولندية على قرارها بخصوص اعتماد سياسة التسامح إزاء ترويج الحشيش بترابها. وقد علّق الكثير من المحللين على الموقف الفرنسي، بكونه أملاه ضرب مصالح رؤوس كبيرة جدا لها علاقة بتهريب المخدرات وتحصد من وراء هذا النشاط أموالا طائلة كانت مدعوة إلى التقلص بفعل ما سموه بـ "المنافسة الهولندية".
الحسن الثاني الأول على رأس الملاكين العقاريين
تمكن الحسن الثاني، في بداية عهده، من وضع يده على خُمس (20 بالمائة من) مساحة الأراضي القابلة للزراعة والأكثر خصوبة بالبلاد في مختلف المناطق الفلاحية بعد رجوع المعمرين الفرنسيين إلى بلادهم.
ويقول مومن الديوري، إن مجموعة من القبائل حاولت المطالبة باسترجاع أراضيها التي سلبها منها الاستعمار بقوة السلاح والنار، إلا أن ممثليها والمتكلمين باسمها لم يجرؤوا على معاكسة أمير المؤمنين بهذا الخصوص.
ظلت ضيعات الملك الراحل الحسن الثاني أحسن وأحدث الضيعات المتواجدة بالمغرب، وكل منتوجاتها مرصودة للأسواق الخارجية، وبالتالي كل الاتفاقيات التي أبرمتها الدولة المغربية مع الدول الأجنبية صبّت مباشرة في اتجاه المساهمة بطريقة مباشرة في تنمية ثروة الملك والعائلة الملكية.
بدأت آليات الاستحواذ على الأراضي الزراعية بعد أن وضعت الدولة يدها على أراضي المعمرين، وقد تزامن ذلك مع التصميم الخماسي 1960 -1964 وحلول الأزمة المالية الخانقة في 1964 – 1965 وتوقيع الملك، يوم 25 يونيو 1964، اتفاقية مع صندوق النقد الدولي للاستفادة من تسهيلات تهم ما قدره 1.3 مليون دولار أمريكي، وكانت هي المرة الأولى التي يستنجد فيها المغرب بصندوق النقد والبنك الدوليين (BM, FMI).
وقتئذ كانت مناسبة سانحة لخبرائهما لإعداد تقرير تمحيصي عن المنظومة الاقتصادية المغربية.
هذا التقرير الذي أقر بالطبيعة الفلاحية للاقتصاد الوطني وبضرورة اعتماد هذا التوجه، مما ساهم في بلورة سياسة فلاحية من أجل دعم الملاكين الكبار على حساب باقي الفلاحين وساكنة العالم القروي، وتمكينهم من الاستحواذ بطرق مختلفة على أراضي صغار الفلاحين والسلالات الاثنية (أراضي الجموع)، وفي هذه الفترة تم الاستيلاء على الكثير من هذه الأراضي مما أجج غضب الساكنة القروية وأشعل فتيل عدة انتفاضات فلاحية، ومنها انتفاضة "أولاد خليفة" بالغرب وغيرها في جهات متعددة من المغرب.
وكان آنذاك قد تم اعتماد سياسة السدود لتوجيه الفلاحة المغربية نحو السوق الخارجية بغية ضمان الحصول على القدر الكافي من العملة الصعبة لإرجاع الديون.
وحسب إحدى مقالات "ميشيل مولر"، كان الملك الراحل الحسن الثاني يعتبر أحد كبار الملاكين للعقارات بمدينة نيويورك الأمريكية.
أجواء مرحلة مراكمة الثروة الملكية بالمغرب
تميزت مرحلة نشأة ثروة الملك الراحل الحسن الثاني والعائلة الملكية وسيرورة مراكمتها السريعة بجو امتاز عموما بالقمع الممنهج والتصدي بقوة لكل أنواع الاحتجاج والتنديد والمطالبة بالحقوق فمنذ 1966 توسعت رقعة احتجاج المثقفين والطلبة والتلاميذ إلى أن حدث الانفجار الاجتماعي سنة 1972.
ففي سنة 1968 شن 7000 منجمي بمناجم خريبكة إضرابا عاما.
وفي 4 مايو 1970 أعلن طلبة الرباط إضرابا عاما دام شهرا بفضل مساندة ودعم الأحياء الشعبية، الشيء الذي أدى بالملك الراحل الحسن الثاني إلى منح دستور جديد قيل إنه دستور "ديمقراطي اجتماعي".
وفي شهر نوفمبر 1970 قدمت الدولة على نزع ملكية أرض بتمارة لفائدة شركة "اسمنت تمارة" التي تعتبر العائلة الملكية من المساهمين في رأسمالها، وقد تضرر من عملية نزع الملكية هذه ما يناهز 10 ألف فلاح. وكذلك الشأن بخصوص "كينك رانش" (king Ranch) بضواحي مدينة مكناس، حيث تم تفويت 13 ألف و500 هكتار للعائلة الملكية من أجل إقامة ضيعة كبيرة لتطوير تربية المواشي الصناعية.
وفيما بين نوفمبر 1970 و1971 انفجرت عدة انتفاضات من طرف الفلاحين في مناطق مختلفة منها الغرب وسوس والحوز.. وكلها ووجهت بالقمع الشرس. ففي منطقة الغرب (القنيطرة)، على سبيل المثال لا الحصر، انتفض سكان "أولاد خليفة"، بعد أن قام أحد المعمرين الفرنسيين ببيع الأراضي التي كانت في ملكه، استنادا لترخيص مسلم من طرف وزارة الفلاحة، إلى مجموعة من الفلاحين المتوسطين من أبناء المنطقة، إلا أنه بعد مدة قصيرة عمدت السلطات على نزع تلك الأراضي من أصحابها الجدد مقابل مبالغ مالية حددتها، وذلك بغرض تفويتها لاثنين من كبار الملاكين العقاريين، قيل آنذاك، إن أحدهما أراد اقتناءها باسمه، كواجهة، لفائدة العائلة الملكية، وبعد أن راجت القضية أمام المحكمة وتم عرضها على العامل وكذلك على أنظار الديوان الملكي، لم يتمكن أصحاب الأرض من وضع يدهم عليها، آنذاك عمل الشخصان اللذان آلت إليهما تلك الأراضي على حرثها، فأحضرا الجرارات، مما أجج غضب أفراد قبيلة أولاد خليفة فمنعوها من التحرك بعد أن اعتصموا أمامها وأوقفوها، فتدخل رجال الدرك الملكي وأطلقوا النار عليهم دون اعتبار للنساء والأطفال الصغار، وكانت الحصيلة 7 قتلى وعشرات الجرحى واعتقالات بالجملة.
وفي 10 يوليوز 1970، هجم تلاميذ هرمومو على قصر الصخيرات، وكان الانقلاب الأول الذي زعزع كيان الملكية لأول مرة في المغرب بعد الاستقلال.
عرفت فترة ما بين نهاية 1971 وبداية 1972 إضرابا واسعا لمنجميي فوسفاط خريبكة وعمال النسيج بالدار البيضاء والرباط وفاس...
ومع حلول سنة 1972 تصدى التلاميذ لإصلاح نظام الباكالوريا بالإعلان عن الإضراب موازاة مع تنظيم مظاهرات صاخبة في مختلف المدن دامت ثلاثة أشهر. تصاعدت وتيرة القمع واتسعت دوائر الاعتقالات همت الطلبة والأساتذة ومجموعة من المثقفين، على إثرها تناسلت مظاهرات أكثر صخبا واتساعا للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين والمختطفين، فكانت بداية مسلسل التصدي لليسار المتطرف.
وفي مارس 1972، تم طرد 8500 طالب من الجامعة من أصل 13 ألف. آنذاك قام الملك الراحل الحسن الثاني بمنح دستور ثالث الذي قيل إنه "ديمقراطي واجتماعي"، كما حدث بمناسبة منحه الدستور الثاني.
وفي 16 غشت 1972، كانت المحاولة الانقلابية الثانية بعد الهجوم على الطائرة الملكية العائدة من الديار الفرنسية.
وفي مارس 1973 انطلقت أحداث خنيفرة وكلميمة سعيا وراء إشعال فتيلة الانتفاضة الشعبية ضد الملكية.
وفي غضون سنة 1973 تمكن صحراويون من احتلال مركز حراسة عسكري إسباني، فكانت انطلاقة حركة البوليساريو المسلحة.
وبعد سنتين أعلن الحسن الثاني عن تنظيم المسيرة الخضراء، وفي 14 نوفمبر 1975 وقع المغرب وموريتانيا وإسبانيا على الاتفاق الثلاثي الرامي إلى توزيع الصحراء.
تنمية الثروة الملكية على حساب الإفلاس الاجتماعي
إن سيرورة مراكمة الثروة الملكية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني تزامنت مع سيرورة الإفلاس الاقتصادي والاجتماعي.
يجمع أغلب المحللين الاقتصاديين على أن السياسات التي اعتمدها الراحل الحسن الثاني أدت إلى شبه إفلاس للوضعية الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب من سنة 1961 إلى سنة 1999، إذ أن البؤس أضحى نصيب الكثير من المغاربة، والغنى والترف الفاحش من نصيب كمشة من المحظوظين والمقربين.
كما أن الفساد والرشوة واستغلال النفوذ لم تعد مجرد معضلات اجتماعية استشرت بقوة في النسيج المجتمعي، وإنما أضحت آلية من آليات التسيير والتدبير ومراكمة الثروات الطائلة. وما هذه المظاهر إلا تعبيرات وانعكاسات لنهج معين لحكم لم يتوقف على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، رغم كل الوعود المصرح بها في الخطابات الرسمية، في إقامة ولو درجة حد أدنى من العدل الاجتماعي كان من شأنه أن يقلص الفوارق الاجتماعية الصارخة ويحد من فداحة الهوة السحيقة التي ظلت تفصل بين الكمشة الأكثر ثراء المستحوذة على مصادر الثروة والسواد الأعظم من المغاربة الذين ظلوا يعيشون أوضاعا صعبة ما فتئت تتردى مع مرور الوقت. وكانت النتيجة هي احتلال المغرب للمراتب المتأخرة بين الدول، وأكثر من 10 ملايين مواطن يرزحون تحت عتبة الفقر المدقع وأزيد من ثلاثة أرباع ساكنة البلاد لا يحصلون على الحد الأدنى للأجور، المعتمد بالمغرب، وأكثر من 85 بالمائة ظلوا محرومين من التغطية الاجتماعية والصحية في العهد الحسني، وبقيت الأجور تتفاوت ما بين 1 وألف، وما يناهز 40 بالمائة من الشباب يرزحون تحت وطأة البطالة. هذه هي الوضعية التي ظلت ترافق مراكمة الثروات الطائلة بالمغرب.
"قصة" تداولتها بعض الصحف الأمريكية
قصة قد لا تخلو من بعض الغرابة، تداولتها بعض الصحف الأمريكية قبل الانقلاب العسكري الأول (الصخيرات صيف 1971)، وهي قصة "المهمة الخاصة" التي قيل إنها كانت وراء تفكير المذبوح في قلب النظام الملكي بواسطة انقلاب عسكري على الحسن الثاني يوم احتفاله بعيد ميلاده.
فقبل انقلاب الصخيرات في يوليوز 1971 بشهور معدودة، كلف الملك الراحل الحسن الثاني المذبوح بمهمة سرية وخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية تحت غطاء تهييء زيارة ملكية خاصة لأمريكا، كان من المقرر أن يقوم بها الملك في الأسبوع الأخير من شهر أبريل من سنة 1971. في حين كانت المهمة الحقيقية هي البحث والتقصي عن أسباب غضب حكومة واشنطن من المغرب آنذاك.
وحسب مجلة "اكسبريس" الفرنسية تمكن المذبوح من اكتشاف الأسباب الكامنة وراء الغضب الأمريكي بسهولة كبيرة، إذ علم أن الأمر يتعلق برسالة وجهها المدير العام لشركة "باناميريكان إيرويز" إلى صديقه "وليام روجس" كاتب الدولة بالبيت الأبيض، مرفوقة بنسخة من كتابات واردة من المغرب وتهم قطعة أرضية كائنة بالعاصمة الاقتصادية، الدار البيضاء، كانت الشركة الأمريكية المذكورة أعلاه ترغب في اقتنائها لتشييد فندق راق عليها.
وفي إحدى تلك الرسائل التي توصل بها كاتب الدولة الأمريكي، أضاف أحد المقربين للقصر والقريبين من دائرة الملك، بخط يده العبارة التالية: "لاستكمال صفقة اقتناء القطعة الأرضية المعنية وجب دفع كذلك 600 مليون...".
إضافة لهذا، اكتشف المذبوح، وهو بالديار الأمريكية، وجود شبكة منظمة لتهريب المعادن النفيسة، تحت إشراف شخصيات مغربية وازنة، بعض عناصرها من ضمن الدائرة المقربة للملك الحسن الثاني آنذاك.
وبعد فشل انقلاب الصخيرات 1971، قيل إن هذين الاكتشافين هما اللذان دفعا المذبوح للإعداد للانقلاب بسرعة. ولعل هذه النازلة، من شأنها تبيان أن آليات مراكمة الثروة في عهد الحسن الثاني لم تقتصر على الطرق المشروعة التي تخولها القوانين الصادرة لهذا الغرض، وإنما تجاوزتها إلى استخدام طرق غير مشروعة يعاقب عليها القانون الجاري به العمل
لمصطفى حيران و إدريس ولد القابلة
مواضيع ومقالات مشابهة